كلمة الراعي: حنان الله ورحمته




كلمة الراعي

                 (حنان الله ورحمته)

الإخوة والأبناء الأحباء،

في الأحد الخامس من آحاد الصوم الكبير، نعيّد للقديسة مريم المصريّة. وقصة حياتها معروفة لجميع المؤمنين المتابعين للحياة الليتورجيّة، وقد وضعتها الكنيسة أمام أعيننا، ونحن نقطع فيافي الصوم، وقفاره بنعمة الله التي تحوّل الفيافي، والقفار الى جنّة خضراء، وجنائن ذات ثمار شهيّة لمن يدرك الحياة الروحيّة في المحبّة، والتواضع، والتوبة.

وبالتأمل في حياة هذه القديسة ينتبه الإنسان الى أن رحمة الله تُغلب كل يأس وخطيئة، ودوماً تنادينا هلموا أيها الفاقدي الرجاء، وأنا أملأكم رجاءً. هلموا أيها البائسون، وأنا أنير دروبكم بالأمل، وأسكب عليكم من رحمة ربي ثماراً لا تعادلها ثمار، وأجراً لا يرتقي لمستواه أجْرٌ.

مريم المصريّة كانت جميلة في النساء مما شجّعها على إستثماره بجمع المال من خلال عرضه في أسواق الإغراء، والملذات، والعربدة. ولكن نحن نريد، والله يريد، والله فاعل ما يريد.

لم يكن في ذهنها أن تترك وحل خطاياها، ورجس حياتها الذي إعتادته. ولكن الله رأى فيها براءة، ومجالاً لتأكيد محبّته. فأدبه كما يؤدب أي أب إبنه، أو كما تنبّه أية والدة إبنتها. فلم يتركها تدخل الكنيسة كباقي الناس، فقد أرادها مثلاً يشعل به الرجاء في قلوب من عشقوا الرزيلة ليعودوا الى الصورة الأولى. ولكي تكون مشعلاً، ونبراساً لمن يريد أن يتوب، ومثلاً لمن يهاجمهم الشيطان مبعداً إياهم عن خلاصهم. لكي يعرفوا كم يحب الله التوّابين.

فأعطاها أن تنتبه لحالها. كثيراً ما يؤدبنا الله، ولكن لقساوة قلوبنا لا نقبل التأديب، وليس أننا لا نقبله، بل لا نفهم على الإشارات الإلهيّة بسبب التعقيد الذي يكبّل أذهاننا، والأنانيّة التي قادتنا لننظر الى ذواتنا أننا ألف مبادئنا، وياء أعمالنا.

وكان منها ما أعلن بنعمة الله من قداستها. أنها لم تصبح فقط تائبة مقبولة، لا بل قديسة تفوّقت في القداسة، والنعم على النساك المجاهدين، ألم يقل السيّد للفريسيين: إن الزناة، واللصوص يسبقونكم الى ملكوت السماوات. كم كنّا نسرد سيرة حياتها، ونورد أنها باعت كل ممتلكاتها ووزعتها على الفقراء، والمساكين، ولكن لم نكن ننتبه أنها عندما خرجت من الكنيسة بعد سجودها لخشبة الصليب أنها توجّهت الى بريّة الأردن. وبالتالي بعد أن شعرت بتأديب الله، ومسّت النعمة حياتها لم تلتفت لا لأملاكها، ولا لثروتها، وهو ما جمعته من الخطيئة، وكأنها أرادت أن تقول مع داود النبي: "أما زيت الخاطئ فلا يدهن به رأسي".

وهكذا تصبح التوبة عندما يفكّ الإنسان كل علاقته مع ماضيه التعيس، ويثبّت وجهه نحو أورشليم ليكون هناك اللقاء ليغتسل بدم المصلوب، ولكي يقوم معه متلقياً أنواره. وإذا جرحت التوبة بالمحبّة قلوب التائبين سينقلبون عاشقين لله لا يرضون عنه بديلاً، ولا عن رضاه مقيلاً. فهل للطفل حنان يعادل حنان الوالدة. وهكذا ليس للإنسان حنان يعادل حنان الله، ولا رحمة تماثل رحمته. ولكن على الإنسان أن يفتح ميادين قبوله لهذه النعم. وفي صلواتنا نكرر دائماً أن الله رحيم متحنن محب. الذي يحب الصديقين، ويرحم الخطأة، والداعي الكل الى الخلاص، وهو الجزيل التحنن، الطويل الأناة، وليس لطول أناته قياس، ولا حدود.

وليست القدّيسة مريم المصريّة المثل على حنان الله، ورحمته، بل ينتشر ذلك في الكتب المقدّسة، وفي سير حياة القديسين، وتعاليم الآباء. مثل داود النبي، وموسى الأسود، وبولص الرسول مضطهد الكنيسة جذبه السيد على طريق دمشق ليكون رسوله الى الأمم، وأمام الملوك. ولا يعصى على رحمة الله، إلا من عصت عليه نفسه، وأخضع ذاته بالكليّة لغير الله.

وأهم ثمار محبّة الله، ورحمته، وحنانه، توبتُه على التائبين، وضمهم ثانية الى جماعة القدّيسين.

قال أحد التلاميذ لشيخه الروحي: "يا أبت كم مرّة يقبل الرب توبتي، كم مرّة أسقط وأنهض؟".

قال له: "حتى يدركك الموت، وبالحالة التي تكون فيها تُقبض روحك عليها، وهنا لا يعني أنك إذا كنت قد خطئت، ومتّ أن الله لا يرحمك، ولكن إذا متّ، وأنت دفين خطيئتك عند ذلك يكون موتك أبديّ، ولكن طالما أنك مصر على النهوض، فالله يعتبرك مجاهداً، بهذه الحالة يقبضك".

فالحروب الروحيّة هي كالحروب العالميّة فيها كر وفر، أي أن يمتلك الإنسان قوّة لا يكسر بعدها، وهذه قوّة الله العاملة فيه، وتزداد هذه القوّة بإزدياد ثباته في ميدان الجهاد ضد الخطيئة، وأهم إعلانات الهزيمة عندما يبتعد الإنسان عن صلاة الجماعة، وأهمها القداس الإلهي. فبدون الصلاة لا، ولن يشعر الإنسان لا بقرب الله، ولا بحنانه، ولا برحمته، ولن يدرك طول أناته.      

          +المتروبوليت باسيليوس منصور 

                     مطران عكار وتوابعها