الرحمة أهمّ من العبادة بلا رحمة


 

الجسم المتضعضع لا يعيش الحياة الروحيّة السليمة، ونحن نروّض أجسادنا لإطاعة أرواحنا، ولا نهلكها، بل نغذّيها ونربّيها.



 

كلمة الراعي

 

المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام

 

افتتاحية البشارة

 

31 تموز 2022

 

الرحمة أهمّ من العبادة بلا رحمة

 

      الإخوة والأبناء الأحبّاء،

 

      خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، أي أعطاه أن يماثله في الفضيلة، والّتي هي في الله ذاتيّة، وعند الإنسان مكتسبة بالخلق وبالتمرين فيما بعد. والفضيلة عند الله لا حدود لها ولا قياس، أمّا عند الإنسان فهي تنمو "وكان الصبيّ ينمو ويتقوّى بالحكمة، والقامة، والنعمة أمام الله والناس".

 

      ومن أهمّ الفضائل الّتي يطالب الإنسان بعيشها فضيلة الرحمة، والّتي هي وجه من وجوه المحبّة. بالرحمة تتحرّك عواطف الإنسان نحو الآخر والطبيعة، وتحرّك معها فضائل أخرى، كالعطاء، والمسامحة، والمغفرة، والمشاركة، والمعاضدة.

 

      هذه الفضيلة عظيمة جدّا "إرحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفاتك امح مآثمي" ولا اختلاف يذكر بين الرحمة والرأفة إلّا في الأعمّ والأخصّ.

 

      الإنسان مطالب بأن يفعّل ما يختزنه من صور فاضلة في خلقه لتصبح فضائل، وتعلو به الفضائل حتّى تصبح مثلا، وبالتالي يصبح الإنسان على مثال الله المخلوق على صورته ليصل إلى مثاله.

 

      ذكرنا مرّات عديدة أنّ للإنسان فضائل موهوبة له بالخلق، ولم يحرمه الله سبحانه وتعالى منها، بل أيّده في عيشها، وطالبه بتطبيقها. لقد رحِم الله الإنسان، وتحرَّك بهذه الرحمة فعلّمه كيف يعود إلى الفردوس " كلّم الله قديما الآباء بالأنبياء، وبطرق مختلفة، وكلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة بابنه الّذي جعله وارثا لكلّ شيء".

 

      وأهمّ الطرق للعودة إلى الفردوس بعد سرّ الفداء هي الرحمة. وبصريح العبارة قال ربّنا يسوع المسيح له المجد: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم السماويّ رحيم"، "وبالكيل الّذي تكيلون به يكال لكم كيلا ملبّدا مهزوزا".

 

      وفي رسالة يعقوب الرسول يقول: "والدينونة تكون بلا رحمة للّذين لم يعملوا رحمة، والرحمة تتفوّق على الدينونة".

 

      وكما المحبّة تجعل المؤمن تلميذا حقيقيّا للرب يسوع "أحبّوا بعضكم بعضا لكي يعلم الناس أنّكم تلاميذي"، هكذا الرحمة أيضا تجعلنا منتصرين في يوم الدينونة الرهيب، لأنّ الرحمة تمنح الإنسان شعور الخروج من أنانيّته ليعمل الخير أو المغفرة أو المساعدة مع الآخر دون مقابل، فقط لأنّه في حالة الضيق، وهو مخلوق على صورة الله ليعيش الصورة ويصل إلى المثال. وهكذا بالرحمة نصبح تلاميذ حقيقيين لربّنا يسوع المسيح.

 

      لا تقتصر مفاعيل الرحمة بتطبيقها في ميادين حاجات الآخرين مع أنّها الوجه الأبهى لهذه الفضيلة، ولكنّها أيضا تنعكس في مجالات الشخص ذاته.

 

      مثلا الإنسان في هذه الأيّام لا يرحم ذاته، بل هو كالحطّاب الّذي حمّل على دابّته الكثير حتّى لم تستطع أن تثبت تحته، ولما وقعت تحت الحمل زاد من حملها أضعافا. على الإنسان أن يرحم نفسه، وألّا يغالي في أيّ شيء. بل ليبحث، ويتأمل، ويستقرئ، ويستنتج ما هو الأفضل، وليطبقه لكي يجد راحة لنفسه. فكما أنّ قسوة الإنسان على الإنسان غير مقبولة، هكذا من غير المقبول قسوة الإنسان على ذاته، وتحميلها ما يرهقها ويزعجها.

 

      في الحياة الروحيّة، قسا القدّيس سمعان العموديّ على ذاته في جهاداته، وحمّل نفسه وصحّته ما قاربه من الموت. فنصحه المرسل البطريركيّ أن لا يقوم بذلك فيما بعد، فالجسم المتضعضع لا يعيش الحياة الروحيّة السليمة، ونحن نروّض أجسادنا لإطاعة أرواحنا، ولا نهلكها، بل نغذّيها ونربّيها.

 

      الرحمة مطلوبة بين الناس، ومن الإنسان لذاته، ولكنّها أيضا مطلوبة في التعامل مع الحيوانات، والطيور، وأسماك البحر لكي تبقى الطبيعة في مسيرتها بكلّ لياقة وترتيب.

 

      الرحمة مطلوبة في استخدام القوانين الكونيّة. يقول العلماء والناس أنّ الطبيعة تنظف ذاتها. هذا صحيح، ولكن إلى حدٍّ معيَّن، ولهذا نرى أنّه في كثير من المناطق لا بل في الدنيا كلّها إذا لم يرحم الإنسان الطبيعة تفقد الكثير من جمالها وروعتها، وبدلا من ظلال الأشجار تسقط أشعّة الشمس الحارقة، وبدلا من روائح الزهور والورود والأخشاب العطريّة، تكثر الروائح الكريهة، وتتخلّى الدنيا عن جمالاتها لعجزها عن مواجهة قسوة الإنسان، وأعماله الجرميّة.

 

      على الناس أن ينبذوا الّذين بلا رحمة، وأن يصلّوا بكلّ قلب محبّ، يغيّر ما بعقولهم وأفكارهم، لكي تمتلئ قلوبهم رحمةً وحنانا ورأفةً على الناس من خلال ما تسلموه من مهام وأعمال.

 

      في العهد القديم، وبكلام مباشر من الله إلى نبيّه موسى قال: "يا بنيّ أعطني قلبك". "أريد رحمة لا ذبيحة"، وهنا مقاربة ما بين الذبيحة الّتي تقام عباديّا ولا انعكاسات لها في حياة الإنسان. فالربّ يطلب أن يتوجّه الإنسان بأعمال الرحمة الّتي لا يرفضها الله أبدا بل يجعلها كنزا موضوعا حيث لا يفسد السوس ولا ينقب السارقون.

 

      عظيمة هي نتائج الرحمة لما تثيره من مشاعر، وتُفعِّله من أحاسيس، وما تنتجه من أعمال حتى أنّها تجعل للإنسان دالة على الله.

 

      "من يرحم المسكين يقرض الرب"، ومن امتلأ قلبه بالرحمة، وصارت عنوان حياته يفيض قلبه بالحنان، وترقُّ مشاعره، وينتقل بعدها إلى ما هو أعظم، وهو المحبّة و"الله محبة".

 

      رجاؤنا إلى الله أن يجعل قلوب الناس مليئة بالرحمة تجاه بعضهم البعض لتنتفي الكبرياء وأعمالها من قلوبهم، فتستقيم الحياة، فيربض الأسد مع الخروف، ويلاعب الأطفال الأفاعي مصيِّرين الأرض سماء.