التقليد والتقاليد - لسيادة المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام


نحن الكنيسة الّتي تعرف الإيمان حسنا، وتتمترس حوله 



التّقليد والتّقاليد

       الإخوة والأبناء الأحبّاء،

       نحن نعتزّ بكنيستنا الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة لأسباب عديدة:

       أوّلا: التّاريخ المليء بالأمجاد الرّوحيّة والإنسانيّة.

       ثانيا: آباؤها القدّيسون الّذين أغنوا تراث الكنيسة اللّاهوتيّ بالكتابات الرّوحيّة والعقائديّة، وخاصّة مدرستها الأنطاكيّة الواقعيّة.

       ثالثا: أنّها الكنيسة الّتي أعطت للعالم الاسم الأعظم، وجعلته نغما تعزفه القلوب أناشيد، وتطرب له النّفوس أنغاما، وتهنأ به الذاكرة أفعالا، وشهادة، ومحبة.

       رابعا: الكنيسة الأنطاكيّة تعيش حرّيّة أبناء الله، محافظة على الإيمان كوديعة سلّمت من ربّنا يسوع المسيح للرّسل، ومنهم لخلفائهم، وهكذا عبر الأجيال، حتّى أيّامنا هذه. ونتحدّى من يمسك على كنيستنا الأنطاكيّة عقيدة إيمانيّة لم تعلّمها الكتب المقدّسة، ولم يعلّمها الرّسل، وينقلها الآباء مشبعين إياها شرحا وتفسيرا وتمحيصا. نحن الكنيسة الّتي تربط ما بين مبدأ الذقون الطويلة، والشّعر المتهدّل، وبين ما تحويه العقائد في دستور الإيمان، والمجامع المسكونيّة.

       نحن الكنيسة الّتي تعرف الإيمان حسنا، وتتمترس حوله، لأنّ بنود الإيمان حصن للمؤمن لا يصيبه من خلاله ضرر، ولا يقع في زلل. ولهذا نواجه العالم غير خائفين، ولا مضطربين، ولا شاكّين ولا مشكّكين. نعتبر أنفسنا، ونحمل المسؤوليّة بأن نظهر إيماننا للعالم أجمع بما لا يقبل الشّكّ، غير محصنين وراء حصون العبوديّة، ولا الخوف من لقاء الآخر، واتهامه.

       الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة تعتمد في تفكيرها على منهج القدّيسين، والآباء، ومعلّمي المسكونة باسيلوس الكبير، وأثناسيوس الرّسوليّ، في مقاربة المواضيع الخلافيّة في كافّة المجالات. لأنّ الرّسول بولس يقول: "الحرف يقتل، والرّوح يحيي"، وعلى هذا الأساس قبل كلٌّ من الأبوين القدّيسين معلّمي المسكونة، وحصني الكنيسة، جماعة القائلين بالمساواة في الجوهر، وليس (من ذات الجوهر) مع أنّ الكثيرين من آباء الكنيسة وقدّيسيها كانوا يتّهمونهم بالهرطقة، على أساس أنّهم  لا يعتمدون تعبير "من ذات الجوهر".

       سؤال يخطر على بالنا، لو كانا في أيّامنا، ألّا يتّهم كلّ من القدّيسين باسيليوس وأثناسيوس بالهرطقة، وممالأة أصحاب الرّأي الوخيم؟

       إنّ قضيّة التّقويم هي من أضعف التّقاليد، وليست لها علاقة بالتّقليد، لأنّ التّقاليد أمور متبدّلة ومتحرّكة، وتنتمي لوضع ومجتمع وثقافة الشّعوب المؤمنة. أمّا التّقليد، فهو الإيمان المسلّم من الرّسل عن الرّبّ يسوع المسيح، وعن وحي الرّوح القدس، وهذا لا يتغيّر، ولو تغيّرت الخليقة كلّها، لأنّ التّقليد الّذي هو الإيمان ثابت إذ يتكلّم عن الله، وكلمته، ومحبته، وعمله، ومشيئته، وإيرادته، وتجسده، وجوهره، وأقانيمه بما يستطيع العقل أن يدركه من تعابير.

       لم يتبع الذّهبيّ الفم ليتورجيا القدّيس باسيليوس، ولم يتبع القدّيس باسيليوس ليتورجيا يعقوب أخي الرّبّ، ولا القدّيس غريغوريوس اتّبع ليتورجيا القدّيسين يوحنّا الذّهبيّ الفم، ولا باسيليوس الكبير، ولا يعقوب الرّسول.

       فهل يكون كلّ منهم هرطوقيّا بالنّسبة للآخر؟

       لقد قال السّيّد له المجد: "كلّ ما حلّلتموه على الأرض يكون محلولا في السّماء، وكلّ ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطا في السّماء". فهل كان يتكلّم آنئذ بالشّؤون العقائديّة، أم في أمور حياتيّة، ونحن في حياتنا نُعبِّر عن المسيح الّذي يحيا فينا بكلّ ما نستطيع من مشاعر، وأدوات، ووسائط، وغايات.

       وأقلّ التّقاليد قيمة هو التّقويم اليوليانيّ، وهو ليس تصحيحا لتقويم سابق عليه، بل، استبدال للتّقويم القمريّ بالتّقويم الشّمسيّ مع إضافة شهرين على سابقه، وقد فرضه الامبراطور الوثنيّ الرّومانيّ يوليوس قيصر، ولم يكن الإيمان قد دفع على الأرض كاملا لأنّ ذلك صار بربّنا يسوع المسيح.

       بكلّ تأكيد أصحاب التّقويم القديم يتّهمون المعتمدين على التّقويم الغريغوريانيّ تهما شتّى لم تثبت لها صحة، ولا قاعدة، ولا دفاع من آيات الكتاب المقدّس، أو من الآباء القديسين.

       نستطيع أن نحيا الإيمان، ونعبّر عنهّ بحسب ظروفنا وثقافتنا شرط ألّا نتجاوزه. فهل إذا استبدلنا المستبدل بغيره والأصحّ، نكون قد أخطأنا بالنّسبة للمسيح، وتجاه الإيمان به، وعقائده؟ لا، لأنّ الأزمنة ليست حتّى من التّقاليد. ونحن نتمسك بتعييد الفصح، والدّور الفصحيّ لأنّه هكذا قرّر الآباء القدّيسون في المجمع المسكونيّ الأوّل 325، أن يكون الفصح بعد فصح اليهود، وهذه هي الحقيقة التّاريخيّة، مع أنّهم ألغوا التّقليد الآسيويّ اليوحناويّ، وتبعوا في ذلك التّقليد الغربيّ.

       كم من الصّلوات تراكمت، أو أبعدت عن ترتيبات الطّقوس، أو نسيت؟ أين هي الأنافورة المتعدّدة في شرق سوريّا، والعراق، وبلاد فارس، للقداس الإلهي؟

       في الكنيسة الأنطاكيّة لم نعتب على الّذين تبعوا التّقويم القديم إلّا لأّنهم أعطوا قيمة وأهميّة لما لا قيمة له، ولا أهميّة. فهل عتبنا على الكنائس السّلافيّة، أو انفصلنا عنها؟ وكما ذكرت في المقال السّابق هناك رعايا في اليونان تتمسّك بالتّقويم القديم شأنها شأن الرّوس، والصّرب، والجيورجيّين، والبلغار، والأوكران، والرّوس البيض، والأورشليميّين.

       نحن كنيسة مجاهدة على أسس الإيمان وقواعده. نحاول ألّا نخطئ، ولكنّ الخطأ في كثير من الأحيان رفيق من يعمل. ونحن في الحوارات والعلاقات نعتمد على فكر الآباء، ونسير على سنّتهم. هل رفض الآباء قبل وبعد سقوط القسطنطينيّة أن يجتمعوا مع الكنيسة الكاثوليكيّة، وبعد 1516 مع الكنيسة البروتستانتيّة؟

       لقد دبّج البطاركة مقالات في الإيمان دافعوا فيها عن قضيّة الأسرار فجاءت كتاباتهم أقرب، وليست مطابقة بكليّتها لما تقول به روما، وبعيدة كلّ البعد عما قاله البروتستانت. ولكنّ السّؤال المطروح، هل لا زال إخوتنا في الكنيسة الرّومانيّة الكاثوليكيّة يعتمدون ذات الأقوال والنّصوص، ويظهرون ذات التّصرفات؟ إذا تحركوا هم إيجابيّا؟ ألا يجب علينا أن نقابلهم بإيجابيّة؟

       هل رفض مرقص الأفسسي الحوار؟ ألم يكن مدافعا صنديدا عن الإيمان، وكلّ الكنيسة الأرثوذكسيّة اعتبرته قدّيسها؟ وكذلك كلّ الكنيسة تعتبر القدّيس نكتاريوس قدّيسها، وتقتدي بأقواله، وتتعلّم من تعاليمه. ترفض ما يجب رفضه، وتتحرّك إيجابيّا بما يجب أن نتحرك نحوه بإيجابيّة. الأفضل أن نسمع لله الّذي بروحه القدّوس تكلّم على لسان الرّسول بولس الّذي قال عن الصّوم ما لم يقله أحد قبله، "الجوف للأطعمة، والأطعمة للجوف، والله يبيد هذه وتلك"، مع أنّ الرّسول بولس كان من المصلّين الصّوّامين، ولكنّه كان مقتنعا بمعاني الصّوم وأهدافه، وليس بالكيفيّة والكمّيّة، والمدد الزّمنيّة الّتي تحدّدت عبر الزّمن، وصارت إلى ما صارت إليه في الوضع الحاليّ.

       أيّها الإخوة الأحبّاء،

       لا تتمسّكوا بغير الثّابت، ولا يكن المتحوّل بالنّسبة لكم من الأهميّة بأهميّة بنود الإيمان الّذي وهبنا إيّاه ربّنا يسوع المسيح. وأخطر من الهرطقة هي الانشقاقات، وخاصة الّتي تأتي لأسباب تافهة كقضيّة التّقويم والشّهور والسّبوت.

       فهل في كنيسة التّقويم القديم غير ما في كنيستنا سوى الثبات على تقويم الإمبراطور يوليوس قيصر سنة 45 ق. م؟

       فتمعّنوا يرعاكم الله.

       يتحدّثون عن خطايانا، ونحن نعرف أنّنا خطأة، ونحاول أن نعيش توبة دائمة وسط أشواك العالم وظلمه وظلامه. نحن لم نهرطق، ومرّ في تاريخ الكنيسة هراطقة كثر. لقد احتوى مصف الرّسل، والجماعة الأولى كلّ من بطرس الّذي أنكر الإيمان ثمّ تاب، ومرقص الّذي هرب عريانا ثمّ عاد، والشّماس نيقولاوس من شمامسة الكنيسة السّبعة الأوائل، والمعروف بأنه علَّم في الكنيسة بشيوعيّة العلاقات الزّوجيّة فرفضته الكنيسة، ومذكور ذلك في سفر الرّؤيا أكثر من غيره. أما تخاصم المسيحيّون الأوائل فيما بينهم، وانقسموا بين ناموسيّين وأبناء الحريّة بالمسيح، وانتصر في النّهاية أبناء الحريّة بالمسيح على أصحاب النّاموس والحرف؟

       ليعطكم الرّبّ الإله جميعا أن تعيشوا الإيمان المسلّم من ربّنا يسوع المسيح، بتقليد من جيل إلى جيل عن ربنا يسوع المسيح، بتقاليد متنوّعة كما يمكن كلّ واحد بحسب ظروف المجتمع، والثّقافة، والإمكانيّات.

11-Dec-2022