كلمة الصّليب


والصّليب الكريم يعلّمنا المسامحة، والتّضحية، والالتزام في الحياة مهما كانت. يعلمنا كيف نصلب ذاتنا عن العالم، متأكّدين بأنّ المثل الّتي نأخذها من وجوده في حياتنا تعلمنا الثّبات والصّدق والمصداقيّة.



كلمة الرّاعي

سيادة المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام

في افتتاحيّة البشارة

19 آذار 2023

كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله. (1كو18:1)

        الإخوة والأبناء الأحبّاء،

        نعبر زمن الصّوم صلاة بعد صلاة، وفضيلة بعد فضيلة، وهكذا يتوالى الزّمن متتابعًا حتّى وصلنا الى مرحلة تذكار الصّليب. وهذا التّذكار ليس للعيد كتذكار الرّابع عشر من أيلول، ولكنّه نصب راية في مسار الصّوم ليذكّرنا بأنّنا قد صلبنا ذواتنا عن العالم، وصلبنا العالم عنّا، فجعلناه عديم الحركة فيما اعتاد أن يفعله في النّاس.

        نسير في الصّوم مجاهدين، ولا بدّ للمجاهدين من استراحات هنا وهناك ليعودوا بزخم أقوى، وعزيمة أمضى.

        ولا يأتي الزّخم والعزيمة للمؤمن بشكل أقوى وأغزر، إلّا من حيث يجد نفسه مشاركًا الّذي أحبّه، ودعي على اسمه، وهو رب المجد يسوع المسيح الّذي قال: "من أحبّ أبًا، أو أمًّا، أو أخوات... أكثر منّي فلا يستحقّني"، وهو الّذي علّمنا أن نحمل صليبه كلّ يوم، ونتبعه.           

        بكلّ تأكيد هو لا يطلب منّا أن نحمل عنه صليب الفداء، فقد حمله هو مرّة واحدة، وإلى الأبد، ولا حاجة لغيره لأنّ به وحده الخلاص.

        إذًا تضع الكنيسة في مسيرتنا هذا التّذكار بكلّ معانيه، لأنّ كلمة الصّليب ليست فقط جهالة عند الهالكين، بل، هي "عندنا نحن المخلّصين قوّة الله". إنّها بالنّسبة لنا رمز لكلّ فضيلة. والصّليب الكريم يعلّمنا المسامحة، والتّضحية، والالتزام في الحياة مهما كانت. يعلمنا كيف نصلب ذاتنا عن العالم، متأكّدين بأنّ المثل الّتي نأخذها من وجوده في حياتنا تعلمنا الثّبات والصّدق والمصداقيّة.

        ولهذا عندما يرسم راهب، ويعطى الإسكيم الرّهبانيّ، يستلم وشاح الرّهبنة الّذي رسم عليه الرّاهب، وهو مع المسيح، يحتمل الحراب المتنوّعة من الأرواح الشّرّيرة المتنوّعة، والتجارب المختلفة.       

        وكذلك في العرس نصلّي إلى الله أن يعطي العروسين الفرح الّذي حصلت عليه القدّيسة هيلانة لما وجدت الصّليب. إنّ من يحمل الصّليب عن قناعة، ويحتمل صليبه بفرح، هذا يشارك بآلامه آلام السّيّد. فقد قال الرسول بولص: "إنّي أفرح بآلامي". ويعتبر أنّ آلامه الّتي يعانيها ويواجهها، يقوم بها ويحتملها لأجل يسوع المسيح، إذ يشاركه بآلامه لأجل الكنيسة الّتي هي الجسد السّرّيّ.

        في سيامة الكهنة، والشّمامسة، وخاصّة الأساقفة تعطى مهمة البشارة، أي الخدمة حتّى النّهاية مهما كانت مقتضيات الخدمة.

ولولا المعنى العظيم الّذي حفظه المؤمنون، واختزنوه في أذهانهم واعتباراتهم، لما استطاعوا أن يروّضوا الوحوش، ويشفوا الأمراض، ويقهروا الممالك ويسودوا عليها.

        عندما عاين قسطنطين الملك راية الظّفر، ومرّتين، في حربين، لم تكن راية بنسور أو صور لقواد حروب، ولا لطيور جارحة، ولا حيوانات كاسرة، بل، قيل له بهذا تنتصر، وكانت العلامة رسمَ الصّليب، فأمر قسطنطين الملك المعادل الرّسل، أن ترسم هذه العلامة على كلّ رايات جنده، وبالفعل، وبها انتصر. ولهذا بحثت القدّيسة هيلانة والدته عن خشبة الصّليب لأنّه تأكّد لها، مع ما جرى لابنها في الحروب، أنّ هذه العلامة بما تحمله من المعاني الكبيرة هي مستحقّة لكلّ إكرام.

        أيّها الإخوة الأحبّاء، شئتم أم لم تشاؤوا لن تغلبوا العالم الحاضر إلا بالصّليب أي بمعانيه، والفضائل الّتي يرمز إليها، ففيه انتصار على عبوديّة سوق الاستهلاك، وفوز على كلّ ما يطرحه العالم من حروب، واقتتال، وتدمير، وكره، وبغض، وخاصة في الانتصار على معوّقات تحمّل المسؤوليّة، والثّبات عليها.

        الإنسان بدون رمزيّة الصّليب ومعانيه يكون بلا مقود يوجّهه توجّهًا صحيحًا، وبدونه يبقى الإنسان عرضة لكلّ التّيّارات. به يفرح المؤمن بأنّه منتصر على هذا العالم الخدّاع، وهو قائد الإنسان إلى التّوبة، ومحرّضه على استعادة الجهاد والتّوثّب.

        نرجو من الله لكم، ولكلّ من يلوذ بكم جهادًا طيّبًا خيّرًا يحمل كلّ بوادر الخير، والتّوجّه نحو الفضائل التي تبني، وطرح كلّ ما يهدِم، وخاصّة أن تنتصروا على سوق الاستهلاك الّذي يكاد يستهلك منّا كراماتنا وحرّيّتنا وشجاعتنا، وحتّى مبادئ الإيمان.

متروبوليت عكّار وتوابعها

باسيليوس

19-Mar-2023