حذار السُّكر (رو ١٣: ١٣)
هكذا هو السكر: يستحوذ على فكر البشر السكارى كما يستحوذ على فكر الصوم الذي فسَق، وإذ يكبِّل العقل يرغمنا على ترك ثروة الأفكار كلّها تنفق بطريقةٍ طائشةٍ وبلا تمييز. فالإنسان السكران لا يعلم ما الذي ينبغي قوله، وما الذي ينبعي
السكوت عنه، سيّما وأن فمه مفتوحٌ دوماً وأن لا قفل ولا باب قدّاء شفتيه. الإنسان السكران لا يعلم سياسة أقواله بتمييز، ولا يعلم تنظيم ثروة عقله بلياقة، ولا يعلم الاحتفاظ ببعض الأمور وصرف سواها بل يبددّها بأكملها وينشرها بأجمعها. السكر جنونٌ طوعيٌّ يخون الأفكار؛ السكر شقاءٌ سخيف، ومرضٌ يُسخر منه، وشيطانٌ آثر أن يكون كذلك وهو أشدّ تكديراً من اختلال العقل. أوتريد أن تعرف بماذا يكون
الإنسان السّكران أشدّ يؤساً أيضاً ممّن مسّه شيطان؟ إنّا نُشفق كلّنا على من مسّه شيطان، أمّا ذاك فنستكرهه. نرأف بالأول، فيما هذا الأخير يغضبنا ويُغيظناء لم إذاً؟ لأنّ هوى الأول سبيه دَسيسة، وأمّا هوى الأخير فسببه تهاونه. بالنسبة إلى الأول، إنما المقصود مكيدةٌ دبّرها أعداؤء، وأمّا بالنسبة إلى الآخر فالمقصود مكيدةٌ دبّرتها أفكاره؛ بيد أنّ الإنسان السكران يُكابد عذاباتٍ مماثلةً لتلك التي يكابدها الممسوس من الشيطان. فهو ضالٌّ بالمِثل، مختلٌّ بالمثل، ويقع أرضاً بالطريقة نفسها، ويدير حدقتيه بالمثل، وإذ يتمدّد على الحضيض يكون عرضةً لاختلاجات مماثلة، ويُسيل الريق من فمه، ويفيض اللعاب الفاسد نفسه، ويكون فمه مترعاً بنتانةٍ لا تطاق.
إنسانٌ كهذا يصيّر نفسه مقزّزاً عند أصدقائه، هزأةً عند أعدائه، محتقراً تماملً عند خدّامه، كريهاً عند زوجته، شخصاً لا يطاق عند الجميع، بل وأكثر تكديراً أيضا من الكائنات التي لا عقل لها. ذلك أن الكائنات غير العاقلة لا تشرب إلاّ بنسبة عطشها
وتحدّ رعبتها بحاجتها، فيما الإنسان السكران يتجاوز الرغبة بداعي إفراطه ويصير أشدّ عباوةً من الكائنات التي لا عقل لها.
أمّا نحن، فلنا كأسٌ حسنةٌ لنسكر بها، كأس سكرٍ تولّد الاعتدال لا الانحطاط. وما هي هذه الكأس؟ إنّها الكأس الروحيّة، الكأس الخلاصيّة، الكأس الطاهرة المملوءة بدم المعلّم. هذه الكأس لا تولّد السكر. هذه الكأس لا تولّد الانحطاط، لأنّها لا تحبط القوى بل تنشّط القدرات. هذه الكأس لا تشلّ الأعصاب، بل تحفّز الأعصاب. هذه الكأس تولّد القناعة. هذه الكأس هي
محطّ إجلال الملائكة، محطّ هلع الشياطين، محطّ تقدير
البشر، ومحطّ محبة المعلّم. . المقصود إذاً إنما هو سكرٌ من نوعٍ جديدٍ يؤسّس الفوّة، ويولّد ضبطاً للنفس ومقدرةً لأنّه من الصخرة الروحيّة سال. کما أنّ دوره لا يكمن في إفساد الأفكار، بل في نشر الأفكار الروحيّة.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم