“سرّ الصلاة والطلب – الحرب الروحيّة – أنا والله”
إذ دعوتُ استجابَ لي إلهُ برّي [1]
لكي ندخل إلى عمق هذه الصرخة الفرحة، لربّما الأسهل أن نبدأ بشرح آخرها، وذلك من كلمات الذهبيّ الفمّ، الذي درَّ على العصور بدرره الذهبيّة الثمينة، فهو يشرح كلمة “إله برّي” ويؤكّد أنّ داوود هنا لا يفتخر ببرّه الذاتي، كالفريسيّ مثلاً! هنا على العكس، داوود بقلب منسحق يعيد الفضل ببرّه للربّ،”فكلّ ما نعمله إنّما نحن عبيد بطّالون”، و”بدونه لا نقدر أن نعمل شيئاً”، وكلّ إنجاز بشريّ هو هديّة وهبة إلهيّة.
هذه العبارة أشبه مثلاً بفنّان موسيقيّ رائع عندما يمتدحوه يقول فلان هو أستاذي، معيداً فضل براعته لأستاذه. هكذا داوود يعرف في العمق أنّ علّةَ سعادته وحياته البارّة هي نتيجة تحنّن الله وثمرة علاقته بالله والحياة بقربه. فالشعور بالحياة البارّة والسعيدة ليس خطأ، إنّما إعادة ذلك إلى الذات هو الفريسيّة. الفرح بحياتنا المسيحيّة هو أمر واقعيّ. والمسيحيّ يشكر كثيراً ومن العمق، لأنّه تعرّف على الله، ويعرفه الله، فهو إله حياته القويمة، أي إله برّه.
من جهة أخرى يتوقّف فمّ الذهب عند هذه الكلمات ويؤكّد أنّه لكي يُستجاب الإنسانُ عندما يدعو الله في الصلاة عليه ليس فقط أن “يتقدّم هو”، وإنّما أن يأتي “ويقدّم”؛ ماذا يقدّم؟ حياته البارّة! الصلاة ليست تأمّلاً فكريّاً وهي أبعد عن أن تكون مجرّد مشاعر شخصيّة، إنّها حوار مع شخص وليست توجيهَ أشعار وتسابيح إلى فكرة!
لهذا وقفة الصلاة كما يسمّيها السلميّ هي “محكمة” ومحاكمة، إنّها مواجهة، وفي هذه المواجهة يجب أن أتّجه أنا إليه وأن يلتفت “هو” إليَّ. عندما يغيب اللهُ عن صلاة المسيحيّ يكرّر مع داوود صلاته: “إلى متى يا ربّ تنساني أَإلى الانقضاء، إلى متى تصرف وجهك عني…”.
الصلاة ليست رسالةً إلى الله وإنّما حديث معه. هذا لا يتطلّب حضوري فقط وإنّما حضوره ورضاه أيضاً. لو تكلّمنا مع شخص يردُّ لحظَه عنّا، لا يستمرّ الحوار، ويبقى الحديث مجرّد بتْبَتَة كلمات أو ثرثرة.
يواجه المسيحيّ اللهَ في الصلاة لهذا علينا “ألاّ نطيل الكلام عبثاً في الصلاة”. فالمسيحيّ لا يردّد فيها مجرّد عبارات وإنّما يقدّم حياته أمام الله. إذن نتكلّم ليس عن خدم وصلوات وإنّما عن حياة الصلاة. الصلوات والخدمات الليتورجيّة هي عبارات تلك الحياة. المطلوب أن تصير كلّ الحياة صلاة، وأن نردّد مع بولس المصلّي: “لستُ أنا أحيا بل المسيحُ يحيا فيَّ”. الصلاة الدائمة ليست في المعبد فقط وليست أمام الأيقونة فحسب، هذه الأخيرة هي صلوات الواقفين بعد على الدرجات الأولى. مَن ولج حقاً إلى الصلاة هو مَن ولَج المسيحُ إلى حياته فصار مركزَها. لا يدخل الربُّ إلى حياة لا مكانة له فيها أو إلى معابد فيها آلهةٌ أخرى.
نكرّر دائماً في صلواتنا وطلباتنا – وغالباً ما نسهو عن عمق الكلمات فتغدو تكراراً مملاًّ – العبارةَ: “وكلّ حياتنا للمسيح الإله”. أن نعطي حياتنا لله لا يعني أن ننقطع عن حياتنا وإنّما أن نحيا ونعمل من أجل الله، ونسير بدنيانا وبإخوتنا نحو الله. الجميع يعملون ويشتغلون ويلدون ويولدون، لكن السؤال هو: لماذا ولمن؟ الحياة للربّ. حياة البرّ ليست مهنةَ الرهبان فحسب، إنّما دعوة كلّ مسيحيّ، كلٌّ من مكانه. الحياة للمسيح لا تعني الحياة التأمليّة والابتعاد عن العالم. الحياة للمسيح تعني أن يكون هو غايةَ وجودنا، به نحيا وإليه نتحرّك. “لا لنا يا ربّ لا لنا بل لك”. هكذا نردّ على كلّ الطلبات: “لك يا ربّ”. هذه هي الحياة البارّة التي غايتها ونهايتها “هو”. هكذا تغدو الحياة غبطة، عندما تأخذ معنى، ومعنى حقيقيّاً وصحيحاً. عكس ذلك تبقى الحياةُ وجوداً قلقاً وطلباً لا يشبع إنْ لم ينقلب إلى عداوات وتسابقاً على ملذّات الدنيا ومراكزها، سعياً لإشباع ذاتنا التي لن تشبع حقّاً إن لم تلتقِ بالمسيح.
لا يطلب الله منّا إطالة الكلام معه، إنّما حياتنا؛ لا يطلب منّا يداً أو حاسّةً أو عضواً أو جزءاً من حياتنا وإنّما يقول: “يا بنيَّ أعطِني قلبك”. وعندما نعطي القلب لله وحده عندها يجول هو فيه ونسمع وقع خطاه ويصير القلب ليس عضلات وإنّما دنيا تحمل كلّ الناس وتحبّ كلّ الناس ولا تكره أحداً. وسط الظلم والضيقات يعرف القلب كيف يصلّي وكيف يتحرّك ويسعى. هذا هو سرّ استجابة الله، سرّ الصلاة.
الربّ سريع الإجابة لمثل هذا القلب. أشعياء النبيّ يقول: “أُدْعُ والله يستمع لك. فعند دعائك يجيب ها أنا حاضر”[2]. الله حاضرٌ فعلاً وينظر إلينا، عندما نحضر نحن دون مراآة؛ عندما نحضر إليه ونحن لا نخفي داخلنا أعداءه، وهو الفاحص القلوب والكلى… المراآة بالصلاة هي سمّها. إنها الصلاة بالشفاه. على مثل هؤلاء المصلّين ينطبق توبيخ الربّ: “هذا الشعب يكرمني بشفتَيه وقلبه بعيد عنّي”. مَن يستطيع أن يواجه الربّ بقلب معوجّ؟
تدبّ المراآة بين الناس. وغالباً، وللأسف، ما تأخذ لون التهذيب والمجاملات واللياقات لكن، أمام الله، الوقفة هي محاكمة صريحة “فالأفعال تُكشف والأفكار تُستفحص”. لا يمكننا أن نرضي الله “بالكلام” وإنّما بالحياة. مهما صرخنا لن يستجيب لنا إن لم نتقدّم إليه من حياة بارّة.
[1] يُتلى هذا المزمور في صلاة النوم الكبرى.
[2] أش 58،