الشتامون والمفترون لا يرثون ملكوت السماوات
الإخوة والأبناء الأحباء،
علمنا ربنا يسوع المسيح أن نتكلَّم دائماً كلاماً طيباً وصحيحاً، وأن لا ننطق بغير الحق، "تحاسبون على كلِّ كلمة بطالة تخرج من أفواهكم". ولأن كثرة الكلام لا تخلُ من اللَّغو، وبعض الجمل البطالة. وحذرنا ربنا يسوع المسيح له المجد أن لا نحلف "لا بالسماء، ولا بالأرض، فالسماء عرش الله، والأرض موطئ قدميه"، وهذا تعبير عن أن الله سبحانه وتعالى هو مالئ الكل. كما يريدنا أن لا نحلف باسم الله بل أن يكون كلامنا نعم نعم، ولا لا، وليس كما يفعل الفريسيون وغيرهم. ويوصينا الرسول بولص أن لا نوارب باستخدام الكلام بل أن ننطق بالحق دائماً فقال: "لتكن نعمكم نعم، ولاكم لا، ولا يكون نعم ولا". حتى أن السيد يقول: "ومن زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت37:5).
إذاً علينا أن نكون صادقين ولا توجد حاجة عند الإنسان المؤمن أن يكثر من الحلفان، بل عليه أن يتميز بالثقة والنفس، وأن يكون كلامه تعبيراً عن الحقيقة إيجابية أم سلبية، خاصة فيما يخصه هو. أما في شؤون الآخرين فليتركها لأصحابها.
والصدق في الكلام يتطلب من الإنسان المسيحي كلاماً يعبِّر عن عمق صدق المسيحي، وما يكنّه نحو الآخرين، وطالما أن الإنسان المسيحي يعيش الصدق في المحبة، والصدق في المعاملات الإجتماعية، وعمله أن يفعل خيراً، وأن يكون كلامه بناءً لا هداماً. قال ربنا يسوع المسيح مخاطباً المؤمنين من خلال الرسل والجموع آنذاك قائلاً الكلام الطيب يطفئ الغضب، وهذه وردت في أمثال (1:15): "الجواب اللين يصرف الغضب، والكلام الموجع يهيج السخط"،
والحكمة من وراء هذه الكلمات مختبرة وناجحة في كل المجتمعات. إذ أن الكلمة الطيبة تقود الناس الى المصالحات، وتطفئ غضب المتخاصمين فيما بينهم، ولا حاجة للحوارات الصاخبة، ولا للكلمات العنيفة كيلا يتجدد الخصام ويتعمق. ومعروف في مجتمعاتنا أن الإنسان المتحدِّث بأحاديث تقود الى السلام يعتبر محترماً ومسموع الكلمة، ومن صانعي السلام. "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"، فهل من يقول كلاماً سيئاً في الناس تحترمه الناس؟ يحترمه مرضى العقول.
ألم يقل لنا ربنا يسوع المسيح: "باركوا ولا تلعنوا". وهذا التعبير من أعمق الحكم الإجتماعية التي علمنا إياها السيد لبناء المجتمع المسالم المتحاب الذي يعكس صورة المجتمع الملكوتي لتتحقق بذلك الصلاة الربية في "كما في السماء كذلك على الأرض".
فإذا شتمت إنساناً، هل أكون عارفاً بالكتاب المقدس، أم سامعاً لكلمة الله (السماع يعني الطاعة لكلمة الله وعيشها)، والمعرفة بالشيء تعني اختباره والتأكد منه.
هل يرث من يشتم ويفتري ملكوت السماوات، لنسمع الرسول بولص ماذا يقول: "لا سارقون، ولا طماعون، ولا سكيرون، ولا شتامون، ولا خاطفون يرثون ملكوت السماوات" (1كو10:6). فإذا كان الشتامون لا يدخلون ملكوت السماوات فهل يدخل ملكوت السماوات المفترون، وهم الكذابون وهؤلاء يقول عنهم ربنا يسوع المسيح أن لهؤلاء أب هو الشيطان. ألا يظلم المفترون الناس في قولهم عليهم قولاً ظالماً كاذباً لا يعبر إلا عن اللؤم في نفوسهم والكبرياء. وقال ربنا يسوع المسيح عن الكذابين في (يوحنا 44:8): "أنتم من أب هو ابليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب".
في كثير من الأحيان تستعمل الكلمات الصادقة في مجال الشر والكذب. ألم يعترف الشيطان بربنا يسوع المسيح، وبما هو عليه، ولكنه قال ذلك لا محبة بربنا يسوع المسيح بل إرباكاً للبشارة.
ألم ينصحه من الكتاب المقدس. بأن يصنع من الحجارة خبزاً، وأن يرمي بنفسه من جناح الهيكل. كلمات صادقة، ومن الكتاب، ولكنها لا تعبر عن الصدق، فالصدق تثبته الأفعال والمثابرة البناءة.
نعم قد يكون الإنسان عارفاً بالكتاب المقدس، ولكن الشياطين تؤمن وتقشعر أيضاً. ليس فقط تؤمن بل وتدرك قوة، وقدرة الكلمة. وطالما أن الإنسان المؤمن العامل بإرادة الله يمتلئ من النعمة الإلهية. وتقوده الكلمة في مناهج الخلاص، وطرق الحياة المقدَّسة، لا يمكنه أن يقول إلا كلاماً طيباً يدل على صاحبه أنه حامل نعمة، أما من يشتم ويلعن، وتفوه بكلام لا يليق، وخاصة في مواقع الكذب والإفتراء، فهذا كالشيطان يكون مليئاً بروح الكبرياء، وينفث تهديداً، ويجول زائراً كأسد يطلب فريسة.
والشيطان يقود في طرق الشر حتى ولو لبس ألف لبوس من أردية ومظاهر الحق. كما يقال هذا قول حق يراد به باطل.
ربنا يسوع المسيح له المجد لم يقل كلمة سيئة في صالبيه، بل غفر لهم، ووجد لصالبيه التبرير. "إغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون".
مطلوب من المؤمنين أن يشيروا الى نقاط الخير ويظهرونها حين يتحدثون عن الناس، ويتركوا لمن له الأمر بالتوجيه في نقاط الضعف، وعليهم أن يفهموا قوة الكلام الذي يسمعونه، أو يقرأونه، أو سمعوه قبل أن يحكموا، أي أن لا يتسرّعوا في حكمهم، كي لا يأخذوا دينونة لذاتهم، لأنه مكتوب "بالدينونة التي تدينون بها تدانون". والآيات الكتابية في هذا الموضوع كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
إذا كان الإنسان المسيحي مطالب أن يقول في حال الحقيقة نعم، وفي حال السلب لا، وما زاد على ذلك من الشرير، فكم يكون متعاوناً مع الشرير من يقول شراً في من يسعون في الأرض صانعين خيراً، ويريدون ويعملون لخير الناس، هل الكلمات الشريرة تليق إلا بمن فتح أذناه للشرير، ووسّع قلبه ليسكن الشرير فيه.
أيها الإخوة الأحباء، يحذّر بولص الرسول من الإخوة الكذبة الذي يصطادون الناس بكلام التملق مستخدمين لذلك كل الإمكانيات ليصطادوا دخيلاً واحداً، أو مؤيداً واحداً.
ألم يكن الفريسيون يعرضون على الناس الكتاب المقدَّس، ومع ذلك كانوا يصيِّرون الناس أبناء جهنم أكثر منهم.
إن الآباء القديسين دائماً يحذرون من الكلام الكثير. ويؤكدون على المؤمنين بما جاء في الكتاب المقدّس "مكلمين بعضكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية" (أف19:5). هذه النصائح قيلت كي لا نقع في الكلمات والأحاديث غير الضرورية. لأن هدف الحياة عند المسيحي هو أن لا يضيِّع وقته في متاهات الكلمات الغريبة عن إيمانه المسيحي وعيشه. بالحقيقة صدق القول الكتابي "أن من يضبط لسانه أعظم ممن يحكم مدينة".
القديس مكاريوس المصري كان يعلم تلاميذه، ومستمعيه أن يهربوا من الكلام البطال.
أسأل الله أن يهبنا دائماً أن نفهم ما نسمع ونقرأ ونرى، وأن لا تقودنا مشاعرنا وعلاقاتنا وأهدافنا الشخصيّة والعامة لقول إلا ما يرضي ربنا يسوع المسيح، ويليق باسمه الأعظم الذي به دعينا وندعى.
وأساله تعالى أن يهبكم كلّ كلمة طيّبة، وكلّ سماع حسن لتمجيد اسمه، وأن يعطيكم هذا الصوم مباركاً ومقدساً، وأن يكون صوماً خلاصياً حافظاً إياكم وعائلاتكم بكل نعمة وبركة.
+المتروبوليت باسيليوس منصور
مطران عكار وتوابعها