انبثاق الروح القدس


انبثاق الروح القدس



إله الوحي المسيحي إله شخصاني. هو ليس إله الفلاسفة (مُجرد جوهر بسيط أو طبيعة إلهية متعالية). إنه إله شخصاني يُخاطب الناس كأشخاص بأسمائهم ويخاطبه الناس باسمه. هذا الإله الشخص كان هكذا حتى في العهد القديم. لكن العهد الجديد كشف ملء الوحي الإلهي فعرفنا أن إله إبراهيم واسحق ويعقوب هو نفسه إله بطرس ويوحنا ويعقوب، وهو نفسه الآب والابن والروح القدس.

نؤمن بالثالوث القدوس لأنه هكذا أظهر نفسه للإنسان، كما مثلاً في معمودية الرب في نهر الأردن. يومها تُرتِّل الكنيسة المقدسة: "باعتمادك يا رب في نهر الأردن، أظهرت السجدة للثالوث" أو "السجود للثالوث". نؤمن بالثالوث لأنه هكذا علّم الكتاب والآباء. نؤمن بإله واحد، لأنه توجد طبيعة (جوهر) إلهية واحدة. ونؤمن بالآب والابن والروح القدس، لأن الله ثلاثة أقانيم أو أشخاص ممتلك هذه الطبيعة الواحدة نفسها. يقول القديس باسيليوس الكبير: "موطننا وحياتنا هو الثالوث القدوس الواحد في الجوهر وغير المنقسم، الإله الوحيد". إذاً: في الله نُميّز بين الطبيعة الإلهية الواحدة البسيطة من جهة وبين الأقانيم (الأشخاص) الإلهية من جهة أخرى والتي لها الطبيعة الإلهية الواحدة التي تكون واحدة للأقانيم بدون انفصال أو تجزئة أو انقسام فيما بينها. أيضاً يوجد تمييز آخر في الله هو بين الطبيعة (أو الجوهر) الإلهية من جهة والقوى الإلهية أو النعمة الإلهية غير المخلوقة من جهة أخرى وهي تصدر عن الجوهر الإلهي[1].

مسألة انبثاق الروح القدس له المجد ذات علاقة مباشرة بالتمييز الأول (بين الجوهر والأقانيم)، وعلاقة غير مباشرة بالتمييز الثاني (بين الطبيعة الإلهية والقوى الإلهية غير المخلوقة) كما سنرى.

لهذا فأي لاهوت يؤدي إلى إرجاع إله الوحي المسيح الشخصاني إلى مجرد جوهر أو طبيعة إلهية غير شخصانية أو يخلّ بالتوازن بين الجوهر (الطبيعة) الإلهي والأقانيم الإلهية ويُضعف التمايز الأقنومي لصالح الجوهر إنما هو لاهوت مرفوض أرثوذكسياً لأنه يُخالف وحي الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة وتعليم الآباء القديسين. هذا بالضبط ما تصنعه عقيدة الانبثاق من الآب والابن.

بالنسبة لعقيدة الثالوث القدوس، يأخذ الغرب الطبيعة الإلهية الواحدة كنقطة بداية، ومنها ينطلق إلى الأقانيم (الأشخاص)؛ أما الشرق فيأخذ الاتجاه المعاكس بادئاً من الأشخاص ومنها ينطلق إلى الطبيعة الإلهي. القديس غريغوريوس اللاهوتي يُفضّل الطريقة الأخيرة (الشرقية) لأنها متوافقة أكثر مع الكتاب المقدس ومع صيغة المعمودية والتي تُسمّي الآب والابن والروح القدس. والفكر البشري لا يتعرض لخطر الضلال إذا ما انطلق من الأقانيم إلى الطبيعة الإلهية الواحدة. مع ذلك، فالطريقتان مقبولتان طالما الطريق الأولى لا تعزو للجوهر (الطبيعة) تفوقاً على الأقانيم، ولا تعزو الطريقة الثانية تفوقاً للأقانيم على الجوهر المشترك.

الآباء استعملوا لفظتين (الجوهر Ousia والأقنوم Hypostatsis) ليثبتوا التميّز بين الطبيعة والأشخاص، بدون المبالغة أو المغالاة في أحد الطرفين. فعندما تتكلم عن الأشخاص تتكلم عن الطبيعة والعكس بالعكس. فلا يمكن تصوّر الطبيعة بدون الأشخاص. إذا تمّ الإخلال بهذا التوازن التضادي antinomy بين الطبيعة والأشخاص، لوجد خطر الوقوع إما في ضلال جعل الله مجرد طبيعة واحدة ذات وجوه متعددة وأسماء عديدة (أو ما ندعوه موحود سابيليوس: وهو الله-الجوهر الخاص بالفلاسفة) أو في تعدد الآلهة.

إن إدخال الانبثاق من الابن كان عاملاً حاسماً ساعد في الانشقاق الأرثوذكسي الكاثوليكي. حتى اليوم لا يستطيع الكثير من المسيحيين أن يفهموا لماذا كان لهذا العامل تلك الأهمية. فإذا كان كل من الأرثوذكس والكاثوليك يؤمنون بالآب والابن والروح القدس، فأي فرق كبير يوجد بين الانبثاق من الآب وحده أو من الآب والابن[2]؟

الجواب يمكن في أن كلا الطرفين يؤمنان إيماناً مختلفاً بالثالوث القدوس؛ هذا الإيمان المختلف تعبّر عنه عقيدة الانبثاق من الآب والابن. فاستعمال الكنيستين للفظة "ثالوث" لا تعني أن لهما الإيمان الواحد عينه. لنبدأ بالخلفية التاريخية هنا فهي مهمّة لفهم هذا الموضوع.

التحدي الفلسفي:

منذ البدايات كان على المسيحية أن تصوغ إيمانها وتعبّر عنه بألفاظ وطريقة مفهومة لعالم نشأ وتغذّى من الثقافة اليهودية واستعمل الفلسفة اليونانية في طرق تفكيره.

في القرن الثاني ظهر تأثير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. فَلِقرون عديدة كانت الإسكندرية مركزاً للثقافة الهيللينية. وهنا ظهر المؤرخ اليهودي المشهور فيلون الذي جانس بين اليهودية والفكر اليوناني. وهنا تأسست أول مدرسة مسيحية رسمية هي المدرسة الإسكندرية.

وفي القرن الثالث يقف العملاقان كلمندس الإسكندري وأوريجنس. لكن محاولاتهما لمجانسة الفكر المسيحي مع اليوناني لم تكن ناجحة مع الأسف. ما يهمنا هنا هو أوريجنس بشكل خاص لأنه ساعد في وضع مرحلة من مراحل المناظرة حول عقيدة الثالوث، وهو ما سيساعد في صياغة هذه العقيدة في القرن الرابع. قال أوريجنس إنه إذا كان الله غير متبدل وإذا دُعي عن حق آباً، لهذا يجب دائماً أن يكون له ابن، وإلا لكان قد بدأ بالصيرورة آبا في نقطة من الزمان، مما يعني تبدلاً في الألوهية. حتى الآن الكلام معقول. ولكن أوريجنس واصل التفكير: بما أن الله يُدعى دائماً خالقاً، لهذا يجب على العالم دائماً أن يكون موجوداً، وإلا لكان الله قد خلق في لحظة معينة من الزمان، مما يعني تبدلاً في الألوهية. هذا المأزق الفلسفي الذي وضع أوريجنس نفسه فيه سيحلّه بطل الأرثوذكسية القديس أثناسيوس الإسكندري.

أثناسيوس ميّ. بين ما هو الله في ذاته، وبين ما يفعله الله. فالله آب لأنه هذا ما هو عليه. من جهة أخرى، خلق اللهُ العالم بمشيئته في لحظة من الزمان. كان ممكناً له أن يخلق أو لا يخلق. فليس العالم أزلياً ولا ضرورة. فالله خالق فقط لأنه يشاء أن يخلق.

هذا التمييز بين حياة الله الداخلية والطريقة التي بها يتصرّف خارج نفسه ad extra، تسمح لنا أن نتأمل في كيان الله في ذاته (اللاهوت بالخاصة)، وفي أفعاله (التدبير) بصورة منفصلة (في الجوهر والقوى)[3]. لا شك أن تمييزاً كهذا إنما هو ثورة في طرق التفكير اليوناني التقليدية وتحدٍ للبساطة الإلهية. مع ذلك كان أثناسيوس يُدرك أنه كان يتكلم عن الإله المسيحي وليس إله الفلاسفة؛ عن الله الذي خلق العالم من عدمٍ؛ عن الله الذي اتخذ جسداً وصار إنساناً.

هذا التمييز كان حاسماً لحل الجدل الذي يلي والمتعلق بعقيدة الثالوث. من المثير للاهتمام أن نعرف أن هذا التمييز بين حياة الله الداخلية وبين نشاطه (أو ما دُعي لاحقاً بين جوهره وقواه) قد تم نكرانه من قبل اللاهوتيين اللاتين في القرون الوسطى وحتى يومنا الحالي. إذاً: حلّ القديس أثناسيوس مأزق أوريجنس بالتمييز بين حياة الله الداخلية أو كيانه (جوهره) وبين نشاطه وأفعاله (أو قواه)[4].

الجدل الآريوسي:

أتى آريوس بالافتراضات الفلسفية نفسها التي أتى بها أوريجنس، ولكنه انتهى إلى نتيجة مغايرة تماماً. فبينما علّم أوريجنس أن العالم كان أزلياً، علّم آريوس أن ابن الله كان مخلوقاً. لم يكن أي منهما مستعداً لقبول التمييز بين الجوهر والقوى في الله.

كان آريوس مثل أوريجنس يدافع عن مفهوم فلسفي يوناني لله. فإذا كان لله ابنٌ أزلي، فإن هذا سيقضي على البساطة الإلهية بمفهوم آريوس، مما يؤدي إلى تعدد الآلهة. لهذا يجب أن يكون الابن مخلوقاً بحسب آريوس.

بسبب انتشار هرطقة آريوس ووجود مؤيدين لها، اضطرت الكنيسة إلى عقد مجمع مسكوني في نيقية العام 325 وحضر 118 أسقفاً و37 مندوباً. في هذا المجمع تمّ وضع دستور الإيمان النيقاوي الذي يقول بأن الابن "مولود غير مخلوق"، مما كان أيضاً انتصاراً لما قاله القديس أثناسيوس سابقاً في التمييز بين كيان الله وعمله[5].

لكن آباء المجمع النيقاوي استعملوا لفظة يونانية كانت مثار جدل لفترة طويلة. لقد رأوا هذه اللفظة تعبّر عن الإيمان الأرثوذكسي في الثالوث، وتؤكد على وحدة الآب والابن في الطبيعة (أو الجوهر) الإلهية الواحدة. هذه اللفظة هي homoousious (لهما أو لهم الطبيعة الواحدة نفسها). هنا برزت عبقرية القديسين باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وغريغوريوس النيصصي في التأكيد على لاهوت المجمع النيقاوي.

الآباء الكبادوكيون:

كثيرون رفضوا تعليم آريوس واستعمال لفظة homoousious، وذلك لأنها لم ترد في الكتاب المقدس ولأنها ذات معنى مغاير في الفلسفة اليونانية. فهذه اللفظة اليونانية كانت تعني لآباء مجمع نيقية أن للآب والابن الجوهر الإلهي عينه. الذين رفضوا استعمالها كانوا يخشون، في سياق التأكيد على وحدة الطبيعة بين الآب والابن، أن يضيع التمايز بين أقنومي الآب والابن. وبما أن اللفظة "شخص" اليونانية آنذاك كانت تحمل معنى "وجه" أو "قناع"، فقد خشي الذين رفضوا استعمال لفظة homoousious اليونانية أن يسقطوا في هرطقة سابيليوس.

سابيليوس (في بداية القرن الثالث) كان يعتبر أشخاص أو أقانيم الثالوث القدوس مجرّد أوجه لله. وأن الله أخذ دور الآب في فترة معينة من التاريخ (قبل التجسد)، وأخذ دور الابن في التجسد. لهذا فاستعمال لفظة homoousious بمعنى مسيحي جديد بالكلية، كان يدعو للخشية أن تختفي أشخاص الثالوث في الطبيعة الإلهية؛ أي أن يتم التأكيد على الطبيعة على حساب الأشخاص. هذا ما تؤدي إليه مع الأسف بدعة الانبثاق من الآب والابن كما سنرى، وإن كان المدافعون عنها لا يقصدون هذا[6].

الوجه الآخر للمشكلة هو أن لفظة "شخص" اليونانية لم تكن تحمل معنى مسيحياً سابقاً، بينما في المسيحية صار "الشخص" هو الحاوي، والأساس، والمصدر والمبدأ والأصل[7] (يوحنا الدمشقي: الإيمان الأرثوذكسي 1: 18). النقطة الجوهرية بالنسبة للآباء الكبادوكيين كانت إعطاء تعبير كافٍ لله الذي كشف عن نفسه للأنبياء والرسل. هذا الإله هو ليس إله الفلاسفة (مُجرد جوهر بسيط مطلق)، بل هو إله شخصاني هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب.

الآباء الكبادوكيون لم "يخترعوا" عقيدة الثالوث. بل كانوا يحاولون الإجابة على التحدي الذي فرضته الهرطقات المتتابعة التي ابتلت بها الكنيسة. فكل هذه الهرطقات (هرطقة سابيليوس وآريوس وأوريجنس وسواهم) كانت تُخضع إله الأناجيل لمفهوم فلسفي عما يُفترض أن يكون الله عليه. فالرؤية الإنجيلية لإله شخصاني كانت ضحية لحساب جوهر إلهي بسيط وثابت بصورة مطلقة.

لاهوت الآباء الكبادوكيين صالح الأساقفة الذين رفضوا استعمال لفظة homoousious خشية من هرطقة سابيليوس. حدث هذا في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية العام 381. عندئذ تم قبول إيمان نيقية ضمن الإطار الذي وضعه الكبادوكيون.

عندما قام اللاتين بإدخال عبارة "والابن" إلى دستور الإيمان النيقاوي، فإنهم لم ينحرّفوا النص فقط، بل قاموا بوطء لاهوت الدستور ذاته. لهذا السبب كانت ردة فعل الكنيسة الأرثوذكسية تجاه هذا التغيير كبيراً وحاداً.

لاهوت الثالوث القدوس:

الأشخاص والطبيعة بين الأرثوذكس والكاثوليك:

اللاهوتيون الشرقيون الأرثوذكس يبدأون بأشخاص الثالوث ومن ثم ينتقلون إلى وحدة الطبيعة الإلهية. بينما يبدأ اللاهوتيون الغربيون عادةً بالطبيعة الإلهية الواحدة وينتقلون إلى تعدد الأشخاص الإلهية. السؤال هنا هو: لماذا هذا الفرق في المعالجة بين الطريقتين؟ فإذا كان تأكيد الأرثوذكس على البدء بأشخاص الثالوث هو انعكاس لهمّهم بالمحافظة على وجهة نظر كتابية أساسية لله الشخصي (إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله بطرس وبولس ويوحنا)، فإن إصرار اللاتين على البدء بالطبيعة الإلهية يعكس اقتراباً فلسفياً أساسياً من اللاهوت وتأثّراً واضحاً بإله الفلاسفة الذي هو مجرد جوهر إلهي بسيط. الأمر نفسه ينطبق على نسطوريوس الذي بدأ بطبيعتين في المسيح وانتقل منهما إلى وحدة الفرد في المسيح، بينما بدأت الأرثوذكسية من وحدة الفرد وانتقلت منها إلى الطبيعتين. أيضاً السؤال هو لماذا؟ الجواب هو أن نسطوريوس كان يطبق تعليماً فلسفياً عن المسيح بينما كان الأرثوذكس يستعملون وجهة نظر كتابية أصيلة والتي أكّدت على أن المولود والمصلوب والقائم من الأموات لم يكن أقل من ابن الله نفسه.

فالأرثوذكسية لا تعرف الله الثالوثي إلا كما كشف نفسه للإنسان: إله أشخاص (إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله بطرس وبولس ويوحنا، إله مكسيموس وغريغوريوس وسيرافيم)، إلهاً شخصانياً، إلهاً ثالوثياً: هو آبٌ وابنٌ وروحٌ قدس. هذا الثالوث نختبره في حياتنا وصلاتنا وفي جهاداتنا كآبٍ خالق ومدبر، وكابنٍ مخلصٍ وفادٍ، وكروحٍ قدسٍ مُقَدِس ومُجدِّد الخليقة. هذا الثالوث هو إله واحد في ثلاثة أشخاص. نعرف أشخاص الثالوث أولاً ومن ثم نؤمن وندرك بأن هذا الثالوث له جوهر إلهي واحد مشترك. وبما أننا لا نستطيع إدراك الجوهر الإلهي بدون معرفة الأقانيم الإلهية، لهذا لا يمكن أن نعرف الله إلا عبر أشخاص الثالوث المجيدة. وإن قلنا بأننا لا نستطيع الوصول إلى الجوهر الإلهي بل نعرف الله من خلال قواه ونعمه غير المخلوقة، فهذه القوى والنعم الإلهية هي "شخصانية" وليس قوى مجرّدة نظرية.

اللاهوت الغربي العقلاني المتأثر بالأرسطوية يحاول معرفة الله بالكفر، بالمنطق العقلاني والتأمل الفلسفي. يؤمن بعض أقطاب هذا اللاهوت بان الفلاسفة القدامى قد عرفوا (نوعاً ما) الثالوث حتى ولو كان خارج الوحي الإلهي المسيحي[8]. الفلسفة عرفت إذاً إلهاً بسيطاً واحداً هو موضوع تأمل عقلي. المسيحية الغربية أضافت على هذه الصورة أشخاص الثالوث. لم تكن هذه الإضافة موفقة بل سطحية وهامشية لأن مفهوم "الشخصانية" الأرثوذكسي لم يكن معروفاً في الغرب بصورة صحيحة، مما أدى إلى اعتبار أشخاص الثالوث "مجرد علاقات" على ما سنرى.

المدافعون عن عقيدة الانبثاق من الابن كانوا، مثل آريوس وأوريجنس، عاجزين عن تصوّر تمييزات حقيقية شخصاينة (كالأقانيم) ضمن الألوهة بسبب مغالاتهم في التأكيد على البساطة الإلهية. وبالفعل كان أوغسطينوس واضحاً جداً بخصوص بساطة الطبيعة الإلهية: "الله... بسيط، بحيث أن حكمته ومعرفته، صلاحه وقوته، هي جوهره"[9]، الذي بدون أعراض accidents[10].[11]

وبصورة مشابهة، فإن التأكيد الموضوع على البساطة المطلقة للطبيعة الإلهية من قبل المدافعين عن الانبثاق من الابن يمكن أن يؤدي إلى الحطّ والإنقاص من الأشخاص. وللإجابة على هذا النقد، فإن بعض اللاهوتيين اللاتين قد "حاولوا أن يموضعوا الانبثاق لا في الجوهر Ousia، الذي هو واحد مشترك [لكل الأشخاص]، ولا في الشخص، الذي تم الكلام عنه بحد ذاته، بل في العلاقة بين الأشخاص.[12]". هكذا، إن الحياة الشخصية للثالوث تُنقص إلى صنف العلاقات. وبالفعل، من الشائع حتى اليوم بالنسبة للاهوتيين الكاثوليك أن ينكروا وجود فرق حقيقي (بالمقارنة مع الفرق اللفظي المجرد) بين الشخص والطبيعة.

هكذا، من وقت أوغسطينوس وحتى اليوم، فإن اللاهوتيين الغربيين قد تبنّوا اقتراباً فلسفياً بصورة أساسية من لاهوت الثالوث القدوس، فيه ساد التنظير حول الجوهر الإلهي. إن "الانبثاق من الابن" هي ثمرة هذا الأسلوب، وبالطبع فإن القديس أوغسطينوس لم تكن له نيّة أن يكون أكثر من ابن مخلص للكنيسة. ففي كتابه "اعترافات"، نرى إنساناً ذا إيمان وتقوى حقيقيين. لكن في كتابه "الثالوث" De Trinitate، فإن أوغسطينوس اللاهوتي المنظّر يأتي تحت الأنظار[13]. على كل حال، فإن ما نتعامل معه هنا هو بصورة رئيسية تركة أوغسطينوس (أو ما ينسب إليه)، بالحري أكثر من أوغسطينوس نفسه[14]. فلو تم البرهان على أن أُغسطينوس هو فعلاً كاتب كل المقولات اللاهوتية المنسوبة إليه، لكان موقف آباء الكنيسة الذين أعلنوا قداسته معاكساً تماماً، وهم الذين اعتمدوا على ما تُرجم من كتاباته إلى اليونانية للتعرف عليه وبالتالي تطويبه.

مصدر الوحدة في الثالوث:

اللاهوت الأرثوذكسي:

دائماً كان الأرثوذكس يؤكدون على أن مصدر الوحدة في الثالوث القدوس هو شخص الآب. فالآب، كمصدر لشخص الابن وشخص الروح القدس، هو بالوقت نفسه أيضاً مصدر العلاقات التي منها تتخذ الأقانيم خصائصها المميّزة. فهو يتسبب بصدور شخص الابن منه بالولادة وبصدور شخص الروح القدس منه بالانبثاق، مما يضع أساس علاقتهما الخاصة بصدورهما (الولادة والانبثاق) بالنسبة لأساس الألوهة الفريد. لهذا السبب كان الشرق دائماً يعارض عقيدة "الانبثاق من الابن" والتي تبدو وأنها تعيق أحدية الأصل أي الآب (كون شخصه هو أساس وحدة الثالوث ومصدر شخصي الابن والروح القدس): فإما يضطر المرء لتقويضة الوحدة وذلك باعترافه بوجود مصدري للألوهة (الآب والابن)، وإما أن يعتبر الطبيعة المشتركة هي مصدر الوحدة مما يعتم على أشخاص الثالوث ويحولهم إلى مجرد علاقات ضمن وحدة الجوهر. بالنسبة للغرب، العلاقات نوّعت (شكّلت) الوحدة الأساسية. بالنسبة للشرق، إن العلاقات تمثل بالوقت نفسه التنوع والوحدة، لأنها تعود إلى الآب كمصدر لها والذي هو أساس الثالوث. النبرة الشخصانية سدى الأرثوذكسية ولحمتها.

إذاً بالنسبة للشرق يوجد إله واحد لأنه يوجد آب واحد. أما الأقانيم والطبيعة المشتركة فهي مُعطاة في الوقت نفسه وبدون أسبقية أحدهما على الآخر[15]. فالآب مصدر كل اللاهوت في الثالوث، يُصدر الابن والروح القدس بمنحهما طبيعته الواحدة، والتي تبقى فيهما طبيعة واحدة غير منقسمة وهي هي نفسها في الآب والابن والروح القدس. بالنسبة للأرثوذكس، إن الاعتراف بوحدة الطبيعة يعني الاعتراف بالآب كمصدر فريد للأشخاص التي تنال من الآب هذه الطبيعة نفسها. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: "برأيي، إن المرء يحرص على إلهٍ واحد فقط بإرجاع الابن والروح إلى مصدرٍ وحيد، بدون تركيبهما أو خلطهما؛... بالنسبة لنا يوجد إله واحد، لأن الألوهة واحدة، وكل ما يصدر منه إنما يشير إلى الوحد، ولو أننا نؤمن بثلاثة أشخاص... إذاً، عندما ننظر إلى الألوهة، أو إلى العلة الأولى، أو إلى الأوحد، هذا الذي ندركه هو واحد؛ ولكن عندما ننظر إلى الأشخاص التي فيها تسكن الألوهة، وإلى تلك التي سرمداً وبمجدٍ متساوٍ يكون كيانها من العلة الأولى، فإنه يوجد ثلاثة وهي ما نعبد"[16]. لا توجد وحدة في الطبيعة الواحدة نفسها في الثالوث فقط، ولكن توجد وحدة في الأقانيم الثلاثة ذات الطبيعة الواحدة نفسها. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: "كل واحد مُعتبر بحد ذاته الله الكلي، كما هو الآب هكذا الابن، كما هو الابن هكذا الروح القدس، لكن كل واحد يحتفظ بخصائصه؛ وإذا أُخذ الثلاثة معاً فإنهم الله؛ كل (مُعتبر بحد نفسه) إلهاً بسبب الجوهر الواحد المشترك، الثلاثة (مُعتبرون) الله بسبب الأحدية Monad". بحسب القديس مكسيموس إن الله هو "أحديّة وثالوث". هذا لا يعني أن مجرد 1=3 و3=1.

القديس يوحنا الدمشقي يقول: "نؤمن بآب واحد، مبدأ الجميع وعلتهم. لم يلده أحدٌ، وهو وحده أيضاً غير معلولٍ ولا مولودٍ. صانع الكل وأبٌ بالطبيعة للوحيد الجنس وحده، ابنه ربنا يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا. وهو مصدر الروح القدس. ونؤمن بابن الله الواحد والوحيد الجنس، ربنا يسوع المسيح، المولود من الآب قبل كل الدهور". ويقول أيضاً: "أما الروح القدس فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق". "وإذا قلنا بأن الآب مبدأ الابن وأعظم منه، فلسنا نعني أنه يفوق الابن زمناً وطبيعةً،... ولا أنه يفوقه بشيء آخر سوى العلة، أي أن الابن مولود من الآب، لا الآب من الابن، وأن الآب علّة الابن بحسب الطبيعة". "وبالمثل نؤمن أيضاً بالروح القدس الواحد، الرب المحيي، المنبثق من الآب والمستريح في الابن والمسجود له والممجد مع الآب والابن". "واعلم أننا لا نقول بأن الآب من أحد، بل نقول إنه أبو ابنه، ولا نقول أن الابن علّةً أو آب، بل نقول إنه من الآب وإنه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونسميه روح الآب. ولا نقول إن الروح القدس من الابن، ونسميه روح الابن".[17]

بحسب القديس مكسيموس المعترف، إن الآب هو الذي يُميّز أقنومي الابن والورح القدس "بحركة أبدية من المحبة". إنه يمنح طبيعته للابن وللروح القدس على حد سواء، والتي تبقى فيهما واحدة غير منقسمة وغير موزعة.

بالإصرار على أحدية الآب –المصدر الفريد للألوهة ومبدأ وحدة أقانيم الثالوث- فإن اللاهوتيين الأرثوذكس كانوا يدافعون عن مفهوم الثالوث الذي اعتبروه أكثر متانة وشخصانية وأقرب إلى اللاهوت الكتابي. فأشخاص الثالوث تكشف بظهورها في الكتاب المقدس لاهوتاً أقرب إلى اللاهوت الثالوثي الأرثوذكسي الشخصاني حيث فيه الأقانيم الثلاثة إله واحد (1 يو 5: 7)، رأسه الآب وهو مصدر الابن بالولادة (عبر 1: 5) والروح القدس بالانبثاق (يو 15: 26). الآب يُدعى أعظم من الابن (يو 14: 28) وبالوقت نفسه هو والابن واحد (يو 10: 30). فالابن خرج من الآب وإليه يعود (يو 16: 27-28). الآب أرسل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به (يو 3: 16). الآب، وباسم الابن (يو 14: 26) يرسل الروحق القدس بالانبثاق (يو 15: 26). الابن يرسل إلى المؤمنين الروح القدس الصادر من الآب (يو 14: 16)، الآب والابن والروح القدس يظهرون معاً عند معمودية الرب (متى 3: 16-17)، لكن الآب هو الذي يتكلم ويشهد للابن ومنه ينزل الروح القدس ليستقر في الابن. الابن يشهد للآب ويأخذ مما للآب. الروح القدس يعلّم تعليم الآب والابن ويشهد لهما.

هكذا نرى أن اللاهوت الثالوثي الأرثوذكسي هو لاهوت شخصاني لا لاهوت ماهية أو ماهيات. فنحن لا نعرف الله ولن نعرفه كجوهر، كماهية، أو طبيعة، لا الآن ولا إلى أبد الآبدين؛ لا نحن ولا الملائكة. إلهنا إله شخصاني خلقنا على صورته أشخاصاً لنقيم شركة معه.

إن تكلم المرء عن الله في اللاهوت الأرثوذكسي، فهو دائماً يتكلم عن إله شخصاني، عن إله إبراهيم واسحق ويعقوب، أو إله بطرس يوحنا ويعقوب، عن الثالوث القدوس؛ الآب والابن والروح القدس. وعلى العكس، عندما تتصدّر الطبيعة المشتركة المكانة الأولى في مفهومنا للعقيدة الثالوثية فإن حقيقة الله الشخصانية في الثالوث تُحجب حتماً بمقدارٍ ما وتفسح المجال لفلسفة معينة من الجوهر. لا يوجد مكان في الكنيسة الأرثوذكسية للهوت الماهيات الأفلاطونية أو الأرسطوية، أي الجوهر المجرّد. في اللاهوت الأرثوذكسي الجوهر موجود فعلياً في الأقانيم. لكننا لا نستطيع معرفة أو فهم أو إدراك هذا الجوهر إلا عبر أشخاص الثالوث المجيدة وبمقدار ما يكشفه الله لنا. اللاهوت الأرثوذكسي واقعي: الأقانيم هي الله الموجود في الواقع. والجوهر هو مضمونها الموجود في الواقع، واقعها الحي. الله لم يكشف لنا ذاته في العهد اتلقديم أو الجديد إلا كإله شخصاني، وليس كمجرد فكرة أو ماهية أو ألوهة ضبابية. هدف الروحانية الأرثوذكسية، غبطة ملكوت السموات، هو ليس معاينة الجوهر الذي لا يُعاين، بل قبل كل شيء، مشاركة في الحياة الإلهية للثالوث القدوس؛ هو الحالة المتألِّهة لشركاء الطبيعة الإلهية (بتعبير بطرس الرسول)، أي للقديسين أو للآلهة المخلوقة على صورة الله غير المخلوق، والذين يملكون بالنعمة غير المخلوقة ما يملك الله بالطبيعة. الكنيسة نفسها صورة الثالوث: كنيسة واحدة أفرادها عديدون. الشخص البشري صورة الثالوث القدوس. علاقة المسيحيين ببعضهم بعضاً إن كملت صارت ثالوثية، فيصير الكثيرون بالمحبة واحداً. يصير الرجل والمرأة واحداً، واحداً في اثنين. كل عبادتنا ثالوثية: بالروح القدس ينطبع الابن الإلهي فينا. وبما أنه صورة الآب فنرى صورة الآب فيه. الأرثوذكسية شخصانية ثالوثية. اليهودية ضيقة مختنقة في مفهوم الإله الواحد البعيد المنال.

لهذا فالثالوث القدوس هو، بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، الأساس الراسخ لكل فكر ديني، لكل تقوى، لكل الحياة الروحية، لكل خبرة. فالثالوث (لا الطبيعة الإلهية) هو من نتوق إلى معاينته في سعينا نحو الله.

قد يوحي المفهوم الثالوثي الأرثوذكسي بأن الآب، كمصدر فريد أوحد للألوهة، نوعاً ما من الأسبقية والتفوق والأولوية. القديس غريغوريوس اللاهوتي سبق ورأى هذه الصعوبة فقال: "أودّ أن أدعو الآب الأعظم، إذ منه تنبع (تفيض) مساواة المتساويين وكيانها... لكني أخشى استعمال كلمة مصدر، لئلا أجعله مصدر الأدنى، وبالتالي أُهينه بأسبقيات الكرامة، لأن إحدار مَن هما منه ليس مجداً للمصدر"[18].

هكذا، في صياغة عقيدة الثالوث القدوس، فإن الصفة التنزيهية (السلبية) للفكر الآبائي الأرثوذكسي كانت قادرة على حفظ المساواة العجيبة بين الأقانيم مع التمييز بين الطبيعة والأقانيم في الوقت نفسه. وبكلمات القديس مكسيموس: "الله هو أحدية Monad وثالوث في الوقت نفسه".

اللاهوت الكاثوليكي:

إن الابن الكلمة والروح القدس هما شعاعان صادران من الشمس الواحدة، من الآب، بدون انفصال ومع ذلك متميّزان كشخصين صادرين من الآب نفسه. الصيغة اللاتينية تُدخل هنا علاقة منشأ جديدة، جاعلة الروح القدس منبثقاً من الآب ومن الابن، وبدلاً من أن يكون لدينا أُحدية الآب، أي شخصه الذي هو مصدر الله الواحد ومصدر الثالوث، يصير لدينا مفهوم آخر، هو مفهوم الجوهر الواحد الذي فيه تتدخل العلاقات لتوطِّد تميّز الأشخاص، والذي فيه (في هذا المفهوم) فإن أقنوم الروح القدس لا يكون أكثر من مجرد علاقة تبادلية بين الآب والابن. المفهوم الغربي للثالوث يضع الطبيعة الجامعة لله فوق الأقانيم، مما يُضعف من الأقانيم ويخلط شخصي الآب والابن ويجعل الروح القدس مجرد علاقة أو صلة وصل بين الاثنين.

انبثاق الروح القدس

مسألة انبثاق الروح القدس هي أهم مسألة لاهوتية تُفرِّق بين الشرق والغرب، بين الأرثوذكس والكاثوليك، بين اليونان واللاتين.

يتفق الأرثوذكس والكاثوليك في أنه يوجد نوع من الغموض بخصوص الشخص الثالث من الأقانيم. تعبيرا "آب" و"ابن" يُشيران بكل وضوح إلى تميّز شخصي، ولا يمكن استبدالهما، ولا يشيران إلى الطبيعة الإلهية المشتركة الواحدة التي للثالوث. أما تعبير "الروح القدس" فلا يشير بالضرورة إلى شخص مميّز معيّن، بل قد يشيبر إلى الطبيعة الإلهية الواحدة التي هي طبيعة روحية وقدوسة. وبالفعل، فنحن نقول بصورة عامة: "الله روح" ونقول "الله قدوس"، مشيرين إلى الطبيعة المشتركة وإلى كل واحد من الثالوث القدوس على حدة. لهذا فتعبير "الروح القدس" يمكن أن ينطبق لا على تميّز شخصي فقط (أي لا على أقنوم مُعين)، بل على الطبيعة المشتركة للأقانيم الثلاثة أيضاً. بهذا المعنى، توما الأكويني على حق في قوله بأن الشخص الثالث من الثالوث ليس له اسم خاص به وإن اسم "الروح القدس" قد أُعطي له على أساس استعمال كتابي.

نواجه الصعوبة نفسها عندما نحاول تعريف وتحديد مصدر الروح القدس، مقارنين "الولادة" بـ "الانبثاق". وحتى تعبير "الانبثاق"ىلا يمكن أن يُعتبر بحد ذاته تعبيراً يصف الروح القدس حصراً. إنه تعبير عام غير شخصاني. لهذا فتعبير "الانبثاق" لا يعطي مفهوماً خاصاً دقيقاً مثل تعبير "الولادة". فتعبير "الولادة" يحافظ على الصفة السرية للأبوة والبنوّة الإلهيتين، ويصف بالوقت نفسه علاقة محددة ما بين شخصي الآب والابن. لكن ليست هذه هي حالة "الانبثاق"، وهو تعبير غير محدَّد عن شخص الروح القدس الغامض بالنسبة لنا، والذي مصدره الأقنومي مقدَّم لنا بصورة سلبية (تنزيهية): إنه ليسى الولادة، وليس هو نفسه مصدر أقنوم الابن.

في القرن التاسع مسألة الروح القدس بين اللاتين والأرثوذكس أثارت مسألة الثالوث بالعلاقة مع أقنوم الروح القدس. فاللاتين جاهدوا لتأسيس تنوع شخصي على أساس تعبير homoousious بادئين من هوية الطبيعة. أما اليونان، وهم أكثر وعياً للتضاد الثالوثي بين الجوهر (ousia) والأقنوم (Hypostasis)، وآخذين بعين الاعتبار الجوهر المشترك، فقد أكدوا على أحدية Monarchy [19] الآب، كضمانة ضد كل أشاكال السابليانية الجديدة كما أشرنا سابقاً.

الانبثاق: اللاهوت اللاتيني:

إذا بدءنا من حقيقة أن الصفة الأقنومية للروح القدس تبقى غير معرّفة و"مستورة"، فإن اللاهوت اللاتيني يسعى إلى رسم استنتاج إيجابي لنمط مصدر الروح القدس. وبما أن تعبير "الروح القدس" هو، بمعنى ما، مشترك بين الآب والابن (كلاهما روحٍ وقدوسٍ)، فإن تعبير "الروح القدس" يجب أن يشير إلى شخص يتعلق بالآب والابن معاً بما لديهما من شيء مشترك. حتى لو كان موضوع بحثنا هنا هو الانبثاق، الذي يعالج نمط مصدر الشخص الثالث، فإن تعبير "الانبثاق" –والذي بحد ذاته لا يدل على نمط مصدر متميّز عن الولادة- يجب أن يشير إلى علاقة مع الآب ومع الابن معاً، ليخدم اساساً لشخص ثالث، متميز عن الشخصين الأولين. بما أن "علاقة التضاد" يمكن لها أن تتوطد فقط بين طرفين، فيجب على الروح القدس أن ينبثق من الآب والابن، بمقدار ما يمثلان وحدة. هذا هو معنى الصيغة اللاتينية التي بحسبها قيل إن الروح القدس ينبثق من الآب والابن كما من مبدأ واحد.

لا يمكن للمرء أن ينكر منطق هذا النمط من التفكير، والذي يسعى إلى تنوعٍ أقنومي على مبدأ علاقات التضاد بحسب تعبير لوسكي. هذا الأساس الثالوثي، الذي صاغه توما الأكويني، يصير لا مفر منه في اللحظة التي يتم بها الاعتراف بعقيدة انبثاق الروح القدس من الآب والابن كمصدر واحد. هذه العقيدة تفترض ما يلي:

  1. 1.علاقات التضاد بين الأقانيم هي أساس هذه الأقانيم [20] والتي تعرّف نفسها بتضادها المتبادل، الأول تجاه الثاني، والأول والثاني تجاه الثالث؛
  2. 2.إن شخصين يمثلان وحدة غير شخصانية، في أنهما يفسحان المجال لبزوغ علاقة تضاد أُخرى؛
  3. 3.إن مصدر أشخاص الثالوث القدوس بشكل عام هو بالتالي غير شخصاني، إذ له أساسه الحقيقي في الجوهر الواحد. إن السمة العامة للاهوت الثالوث الغربي هذا هي أسبقية وحدة الطبيعة على الثالوث الشخصاني، أو أولوية وجودية (أونتولوجية) للجوهر على الأقانيم.

التوازن بين الأقانيم والجوهر في اللاهوت الأرثوذكسي:

إذا كان التنوع الشخصي في الله يمثل حقيقة أولوية لا يجب استنباطها من أي مبدأ آخر ولا هي مؤسسة على أية فكرة أُخرى، فهذا لا يعني بأن التطابق الجوهري للأقانيم الثلاثة هو وجودياً (أنتولوجياً) أدنى من تنوعهم الأقنومي. فاللاهوت الثالوثي الأرثوذكسي ليس ردة فعل على عقيدة "الانبثاق من الابن"؛ إنه لا يسير نحو التطرف الأقصى المعاكس (كأن يبلغ مثلاً في التنوع الأقنومي على حساب الوحدة في الجوهر). فكما قلنا إن علاقات المصدر[21] تدل على التنوع الشخصي للثلاثة، لكنها تدل أيضاً على التطابق الجوهري (في الجوهر). فالابن والروح القدس يُميَّزان عن الآب، لكننا نعبد الأشخاص الثلاثة؛ هما واحد معه، ونعترف بجوهرهم المشترك. هكذا فإن أحدية الآب تحافظ على التوازن التام بين الطبيعة والأشخاص، بدون الانحياز نحو أحد الطرفين. فلا يوجد جوهر غير شخصاني ولا أشخاص بدون جوهر واحد مشترك لهم. الطبيعة الواحدة والأقانيم الثلاثة تُقدَّم لفهمنا في الوقت نفسه، بدون أسبقية أحدهما على الآخر. إن أصل الأقانيم ليس أصلاً غير شخصاني، لأنه يعاد إلى شخص الآب؛ لكن ليس من الممكن التفكير بمعزل عن ملكيتهم المشتركة للجوهر الواحد نفسه. وإلا لكان لدينا ثلاثة أفراد إلهية، ثلاثة آلهة مرتطبة ببعضها بعضاً بفكرة مجردة من الألوهة[22]. ومن جهة أُخرى، بما أن وحدة الجوهر هي التطابق (المساواة) غير الأقنومي للثلاثة، في أنهم يملكون جوهراً مشتركاً، هكذا فإن وحدة الأقانيم الثلاثة لا يمكن تصوّرها بمعزل عن أحديّة الآب، الذي هو أساس الملكية ال

situs toto slot terbaik SITUS TOTO Togel Hadiah Terbesar Bet 200 Perak Link Alternatif Nana4D Situs Toto Slot Gacor Situs Toto Situs Toto Slot Gacor Situs Toto Situs Slot PG Soft Terbaik Dan Terpercaya Situs Toto Terpercaya Slot Thailand nana4d SLOT DEMO SLOT DEMO X1000 Slot Gacor Hari Ini Slot Demo PG RTP Live Info Slot Gacor Hari Ini Bocoran RTP Slot RTP Live Gacor Tertinggi BANDAR SITUS TOTO BANDAR SITUS TOTO TERPERCAYA BANDAR SITUS TOTO TERBAIK https://https://jermynstreetjournal.com/ https://jennybolton.com

shiowla

situs toto

situs toto

shiowla

shiowla

https://kalamariotes.gr/-/shiowla/

https://shantikuteer.org/

https://proletter.org/

shiowla

shiowla

situs toto

situs toto

situs toto

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

shiowla

http://elikconsulting.com/-/shiowla/

https://f4a.pt/-/situs-toto/

http://www.rsiafghanistan.com/-/shiowla/

https://qpadmon.com/opac/shiowla/

https://444bunuelosgourmet.com/-/shiowla/

https://alsalamradio.com/frontend/-/stoto/

slot88 slotgacor