كلمة الراعي
(الحياة بالمسيح تفيض واجباتها
عن الزمن الذي يعيشه الإنسان-الجزء الثاني )
الإخوة والأبناء الأحباء،
إذا أراد الإنسان أن يعيش الحياة مع المسيح لن يكفيه زمنه، وقد رأينا ذلك بحسبة بسيطة، وكما قال القديس غفريئيل الجيورجي: كيف يستطيع الإنسان أن يقول أنه سيذهب لقضاء عطلة أسبوعيّة، أو فصليّة، أو غير ذلك، فالمسيح بالنسبة للإنسان المؤمن يملأ كل شيء. ولكن هل في هذه الحياة مع المسيح حريّة. نعم فيها كل الحريّة إذا أخذنا الحريّة كحياة، وليس كفكرة مجرّدة. فكل ما هو لصالح الإنسان يوسع ميادين حريّته، ويفتح أمامه آفاقاً جديدة حتى يصل الى الحريّة الكبرى، والسعادة العظمى فتصغر أمامه كل أشياء هذا العالم وطرقه، ولا يعود يخاف شيئاً بل كل الأشياء ستخاف منه، أو تبجله، وعلى جميع المستويات. أما طرق العالم فتكبل الإنسان، وتضيّق عليه ميادين حياته. فمحب المال يصبح خادماً له، ومن يهوى السلطة تكبّله عن الحركة، وتأسر مشاعره، وهكذا دواليك بالنسبة للأمور الأخرى. فالموت بالمسيح ربح، والحرية مع العالم موت.
إذاً هل يستطيع من يعيش حياة الإيمان أن يقيم الصلوات السبعة، والصلاة الخاصة. والأعياد الخ، ويبقى له زمن. لقد سمعنا الآباء الرهبان يذكرون مراراً أن الزمن العالمي لا يكفي لهم للقيام فقط بما يتعلق بحياتهم. ومن يعيش بينهم يدرك دقة ما يقولون. وهناك تعبير آخر يقولونه عندما يريدون الخروج من أديارهم لقضاء حاجات الدير أو الإخوة، أنهم خارجون الى العالم، ويصدق فيهم القول الإلهي على لسان داود النبي: "كما تبعد الارض عن السماء، والمشرق عن المغرب تبعد أفكاري عن أفكاركم، وطرقي عن طرقكم". وبالرغم من عدم تطبيق المؤمن لكل متوجبات الإيمان إلا أنه يبقى فرحاً، ومسروراً، ويسبغ الله عليه هذا الفرح لأنه سبحانه وتعالى يرى محاولاته فيسكب عليه نِعم رضاه، وهوالقائل: "قوتي في الضعف تكمل". والإنسان المؤمن مهما قصَّر عن إضطرار لا يشعر أنه مقصّر فالله يحميه، ويشعره بأنه الحبيب الذي يحاول قدر إستطاعته ليكون العبد الأمين.
والكنيسة تمتد على كل مراحل حياة الإنسان على الأرض، ولكنها تمتد أيضاً الى ما بعد ذلك "إلهنا إله أحياء، وليس إله أموات"، والزمن في الكنيسة لا ينقسم الى قسمين فحضور المسيح يجعله واحداً، وقد خصص الآباء تسمية للكنيسة على الأرض، ودعوها بالكنيسة المجاهدة، وتسمية أخرى لمن إنتقلوا الى الحياة الأبديّة فسموها بالكنيسة الظافرة، ورأس هذه وتلك، السيّد له المجد.
إذاً ترتب الكنيسة زمن الراقدين. فبعد الموت، تصلي للراقدين، وتودّعهم من هذا العالم بكل كرامة تليق بالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. ثمَّ تهتم بمصيرهم ووقفتهم أمام الله، وكيف سيذهبون، وعلى أي حياة سيحصلون، ولهذا بالسلطان المعطى لها من الله تتضرّع أمامه من أجلهم ليغفر خطاياهم، ويؤهّلهم لملكوت السماوات. وقد أكّد القديس باييسيوس الآثوسي أن الأموات يُسرون بصلوات المؤمنين، وأدعيتهم لهم، كما يُسر المساجين بزيارة أقربائهم. وتبقى تذكارات الأموات، وإهتمام المؤمنين بهم طيلة الحياة على هذه الأرض. والتذكارات كثيرة، ولكن أخصها: الثلاثة أيام، الأسبوع، الأربعون، الثلاثة أشهر، والستة أشهر، والتسعة أشهر، ثم تليها التذكارات السنوية.
وقد أقامت الكنيسة تذكاراً أسبوعياً يوم السبت، وأقامت الكنائس في المدافن كنائس لأجل إقامة الذبيحة الإلهيّة للمؤمنين الراقدين، وأقامت سبتين خاصين في السنة لتذكار الراقدين، ومشاركتهم أفراح القيامة، وحتى الجهاد الروحي الذي يخصص كله أو بعضه لأجل نجاتهم. ناهيك عن تذكارات القديسين التي لا تنتهي إلا بالقيامة العامة. السؤال الذي يطرح نفسه. هل يكفي الزمن الحاضر عن إستيعاب إهتمام الكنيسة بحياة المؤمنين، وتقديسها، وترتيبها؟.
جعلنا الله بنعمته الإلهيّة من عبيده الأمناء على الإيمان وعيشه، وليشملنا بأنوار كماله المكملة لكل نقص نقع فيه، ويجنبنا العالم وشروره.
+المتروبوليت باسيليوس منصور
مطران عكار وتوابعها