الإخوة والأبناء الأحباء،
في كل عام في مثل هذا الأحد الذي هو الأحد الثالث من الصوم، نعيّد لتذكار رفع الصليب المقدَّس بعد أن وجدته الإمبراطورة هيلانة بعد أن بحثت عنه تحت أنقاض ونفايات بالقرب من المدينة المقدَّسة. وقد قصدت الكنيسة أن ترفعه أمام أعين المؤمنين محاطاً بالزهور، والورود، والنباتات ذات الروائح الزكية.
ولا يمر يوم على الإطلاق إلا ويذكر الصليب في صلواتنا وتراتيلنا، ويتغلغل في تأملاتنا ومقارباتنا للحياة، وطرق عيشها، وسبل النجاح في اجتياز صعوباتها.
حتى في الخدم الليتورجية ما عدا خدمة الصلاة لأجل الراقدين إن كان بالتوديع أو بالتذكارات. ونمتنع بالإجمال عن ذكر الصليب لأنه يشكل بالنسبة لنا الرجاء بالقيامة، والحياة الأبدية. وعلى هذا الرجاء رفع المؤمن ذاته مع المسيح ليصل معه الى القيامة، والجلوس عن يمين القدرة. كما شدّد الرسول بولص عندما قال: أنه يفرح بآلامه التي يُزْوِجُها بآلام المسيح لأجل كنيسته.
عند الموت بحسب إيماننا قد تحقق الرجاء، وصار الإيمان واقعاً، وحصل المؤمن على المكافأة فهو راتع في القيامة، والأنوار الإلهيّة حيث لا وجع، ولا حزن، ولا شيء مثل ذلك.
تشدّد الكنيسة في حياة الفرد، وحياة الجماعة في الحياة العامة، وفي الحياة الخاصة بين الناس، ومعهم، وفي الكنيسة أثناء الصلاة أو الخدم الإلهيّة على أهميّة حمل الصليب الذي وجدت القديسة هيلانة الفرح به. والذي حمله الإمبراطور هرقل عند دخوله الى المدينة المقدَّسة إذ كان يحمل رمز الإنتصار على الفرس الذين كانوا قد حملوه معهم الى عاصمتهم قطيسفون. ولما إنتصر عليهم هرقل أعاده الى المدينة المقدَّسة رافضاً أن يحمله غيره.
الصليب ليس مدعاة للألم، وتمجيد الألم. بل مدعاة للفرح لأنه يرمز للإنتصار. حتى أنه يستعمل كرمز للإنتصار، ويسمى في المجتمعات (صليب النصرة)، وقد قال السيد له المجد: "من يصبر الى المنتهى فهذا يخلص".
والصبر هنا ليس على الألم لأجل الألم، بل لأجل النجاح، والوصول الى الهدف الذي يعمل الإنسان لأجله. فمن لم يجاهد حسناً كيف يصل الى الهدف.
الصليب كرمز للخلاص الذي تمّ بسرّ الفداء له كل الإكرام والتبجيل لأنه تقدّس بالذي إرتفع عليه، وقال: "متى إرتفعتُ جذبتُ الجميع إليَّ".
بالصليب، ومعانيه ثبُت المؤمنون خلال أزمنتهم كلها، ووصلوا أن كسروا أمماً ليس بالدم، ولا بالهدم، ولا بالخراب، بل بالفضائل التي يحضّ الصليب بمعانيه على عيشها. لقد كان بالنسبة للمؤمنين خشبة الخلاص، وبرج الصبر على الإضطهادات التي عانوا منها في حياتهم أيام الدولة الرومانية، ومن ثمَّ في كل دولة غير عادلة، وعندها تمييز ضد المؤمنين من المسيحيين، وغير المسيحيين.
ولا يقتصر معنى الصبر الذي يوحيه الصليب فقط على الإضطهادات الحكومية في أي منطقة. بل في كل عمل يبتغيه الإنسان للخير والنجاح. فمن مقاعد الدراسة يحمل الإنسان صليب الجدّ والإجتهاد، فأي طفل يريد ترك دفء البيت، وحنان الأبوين، ورفقة الإخوة حيث الهدوء، والأمان، والإطمئنان. ألا نراهم كيف يبكون عندما يأتون صغاراً الى المؤسسات التعليمية، ولكنهم عندما يستوعبون مقدار التقدم الذي ينتظرهم، ولن يتبوأوا مكانة عالية في المجتمع، ويحقّقوا ما يهدفون إليه إلا بالصبر واحتمال ما يتوجبه العِلْم، ومتابعته في الجديّة، والإخلاص، والسهر، والإستيعاب.
هل تنجح العائلة بدون معاني الصليب. لن تنجح لأن العائلة إذا لم يوحدّها الصليب بمعانيه أفقياً وعامودياً لن تثبُت، ولهذا في العرس نقول: "هبهما الفرح الذي وَجَدَته القديسة هيلانة عندما وجدت الصليب المكرم".
أي بلد في العالم ينجح بالحفاظ على حريته، وسيادته، واستقلاله لولا جهاد المخلصين فيه، وحملهم لصليب المسؤولية، والذي تتطلبه مسؤولية السلطة الموْكَلَة إليهم. ألا نرى في بلادنا الى أين صرنا بعد أن أنزل المسؤولون صليب الإحتمال عن ظهورهم، وتنازلوا عن مسؤولياتهم لأجل إشباع نهمهم، وشهواتهم.
نعم إن التخلي عن معاني الصليب هو تنازل عن الهدف، وبرهان عن الضعف.
تخلى يهوذا عن أن يكون في مصف التلاميذ فخسر حياته ليس الأبدية فقط، بل والوقتية إذ أرجع المال الى مجمع السنهدريم ثم مضى وشنق نفسه.
لو تخلى العلماء عن جهدهم، ومتابعتهم هل كنا نصل الى ما وصلنا إليه.
في المسيحيّة لا نعشق الألم، بل نحن دين التعزية، والفرح، والرجاء، والخلاص، والله سبحانه وتعالى يقول: "قوتي في الضعف تكمل". نضع الصليب أمام أعين المؤمنين، وفوق الأيقونات على حامل الأيقونات. كل حياة المؤمنين الأوائل تتمحور حول الصليب الذي أوحى لهم الفضيلة، والإحتمال كرامة ومحبة لرضى الله الذي أحب الناس حباً جماً حتى أنه أرسل إبنه الوحيد ليفتدي الذين تحت الناموس. بدون الصليب لا توجد حرب، ومقاومة للخطيئة، ولا ثبات في الصلاح. وخير دليل ما وصله العالم في أيامنا هذه بعد أن سادت الأنانيّة، والمصالح الشخصيّة، وحلت محل التكافل والتضامن، والتعاضد الإجتماعيين. بدون الصليب يجد الإنسان ذاته وحيداً مستغَلاً لا رجاء له فتكثر حالات اليأس والإنتحار. بدون الصليب يصل العالم فرادى وجماعات الى حائط مسدود، وبالصليب يبقى كل شيء ممتد الى كل النجاح، والفرح، والسعادة، والهناء، والإطمئنان.
به إستطاع الرهبان، والنساك أن يعيشوا، وأن يصلوا الى مراحل القداسة، وهم على هذه الأرض. لأنه بالصليب يستطيع الإنسان أن يقاوم الأرواح التي في الجو، وليس الأعداء الذين يراهم، والأشد من ذلك وأصعب أن يقف الإنسان ضد ذلك، وأن يمتلك إرادة بها يقاوم الموت.
بالحقيقة بدون معاني الصليب لا يمكن أن توجد فضيلة، ولا تعاش، ولا يمكن أن يتحقق نجاح، ولا تقدم في أي شيء من الأشياء، بل ستبقى الأشياء، والأعمال في مبادئها، أو في وسطها، أو في بعض طريقها.
أسأل الله أن يهبكم الصبر، والغَرْفْ من معاني الصليب، وينابيعه الخلاصية لكي تصلوا الى كل أنواع النجاح والإنتصار، وأن نصل سويّة الى ما يعنيه من معاني الإحتمال والحرمان في هذا الصوم المبارك إذ قد وصلنا الى وسطه، وعلينا مضاعفة الجهاد لإجتيازه كاملاً فننال المكافأة العظمى، وهو فرح القيامة المجيدة.
أسأل الله أن يعيننا على احتمال شدة المعاناة التي ألقاها على كواهلنا حكام بلادنا، فهذه ليست صليباً لأنها تبغي غايتهم، وإشباع شهواتهم بالتسلط والغنى، وأن يديم عليكم الصحة والعافية.
+المتروبوليت باسيليوس منصور
مطران عكار وتوابعها