صارت ثيابه بيضاء لا يستطيع قصّار أن يبيّض مثلها. لهذا لم يستطع الرسل أن يستوعبوا قوّة النور، ولكنّ الله بسماح منه جعلهم يشاهدون ويعاينون ما شاهدوه، وما عاينوه
المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
افتتاحيّة البشارة
7 آب 2022
الإخوة والأبناء الأحبّاء،
في كلّ عام نقيم تذكارا حافلا لتجلّي ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، ربّ المجد على جبل ثابور، وبهذه المناسبة نرتل هذه القطعة من المجدليّة الكبرى قبل الدخول إلى الهيكل لإكمال القدّاس الإلهيّ (لأنّ من قبلك هي عين الحياة، وبنورك نعاين النور).
لا أحد يشكّ أنّ الحياة هي من نبع واحد هو الله سبحانه وتعالى، فلولاه لما وجدت الحياة، ولما وجد حيّ. فيه صار كلّ شيء، وبنسمته الّتي أعطاها للكون صارت الحياة. الحياة عند عناصر الطبيعة من حيوانات، وطيور، وأسماك، ونباتات، وأشجار، صارت بإرادته. أمّا حياة الإنسان فقد قامت بنفخته كما يذكر الكتاب المقدّس "وجبل الربّ الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة".
وكما أنّ الله هو نبع ومصدر كلّ حياة، هكذا هو مصدر ونبع كلّ معرفة على اختلاف أنواع المعرفة.
فهي أوّلا المعرفة الحياتيّة الّتي يكوّنها الشخص من خلال حياته الشخصيّة أي من خبرته الطبيعيّة.
ثانيا المعرفة البشريّة المجتمعيّة، وهذه يكوّنها أيضا بمرور الزمن عليه، وتواصله مع المجتمعات، فتنمو بالرؤيا والملاحظة، وهي مختلفة من شخص لآخر، وتعمل على هذا الاختلاف كثرة التنقّلات، والتواصل مع عدّة أشخاص وأماكن.
المعرفة العلميّة، وبعضها ممّا سبق، ويكتنز الإنسان هذه المعرفة عند المعلّمين، وبالطرق الّتي يرونها. ويغذّيها الإنسان بقدر ما يطالع.
أثبتت أنواع المعرفة، التي تأتي بالخبرة، وتُدعى المعرفة أو الذاكرة العاطفية أنّها لا تنسى. ولهذا عندما يكبر الإنسان في العمر، ويتقدّم في السنّ يعود دائما إلى ما اختزنه عقله منذ أيّام الطفولة، وما قاربها.
المعارف الثلاث الّتي أوردناها تبقى في هذه الدنيا لأنّها من هذه الدنيا. أمّا المعرفة الّتي يجاهد الإنسان للحصول عليها بالطرق الإنسانيّة، ولكنّها لا تأتي بهذه الطرق، فهي المعرفة الإلهيّة أي الدخول في معرفة الإلهيّات، فينال الإنسان معرفة بما لم تتطرق إليه المعلومات البشريّة، أو الطرق البشريّة.
يحصل الإنسان، كلّ إنسان، إذا أراد على المعرفة الطبيعيّة بالقراءة والدراسة والملاحظة والاطّلاع. أمّا المعرفة الّتي تأتي بطرق غير طبيعيّة، فهي من الله لأنّها تعطي نوعا جديدا من الحياة. ولا يستطيع الإنسان الحصول عليها عندما يريد وتتيح له الظروف، بل هي من الله، ويحصل عليها الإنسان بطرق يؤمّنها الله للمجاهد روحيّا، والثابت في حبّه لله.
وتأتي عندما يجاهد الإنسان جهاد المحبّة لا غير، لأنّ المجاهد الحقّ هو المجاهد محبّة بالله، فيكرم قدّيسيه محبّة به، ويجاهد فقط لأنّه مدرك في أعماق ذاته أنّ الله يستحقّ أن يُحَبّ. هكذا علّمنا آباؤنا القدّيسون، وخاصّة إسحق السوريّ، وباسيليوس الكبير.
وإذ يثبت الإنسان في علاقة المحبّة مع الله، يكشف الله له بعضا ممّا عنده، ويضيئه بنوره ليفهم ما يستحقّه، وبدون الاستنارة من الله لا يمكن لإنسان أن يتعرف أو يعرف شيئا ممّا يفوق الطبيعة أي لا تتكون عنده خبرة شخصيّة في النعم الإلهيّة.
تكلم آباءٌ كثيرون معاصرون وقدماء عن هذا النور، ويحدّثنا العهد القديم عن هذا النور، وهو النور الّذي جعل وجه موسى يلمع بحيث أنّه اضطر أن يضع على وجهه برقعا لعدم مقدرة الشعب رؤية وجهه.
ويتفاوت الناس المجاهدون روحيّا في مقدرتهم على مشاهدة النور الإلهيّ، فالرسل غطّوا وجوههم بالأرض لأنّهم شاهدوا، ولكنّهم لم يحتملوا الاستمرار في المعاينة، فقد صارت ثيابه بيضاء لا يستطيع قصّار أن يبيّض مثلها. لهذا لم يستطع الرسل أن يستوعبوا قوّة النور، ولكنّ الله بسماح منه جعلهم يشاهدون ويعاينون ما شاهدوه، وما عاينوه.
"تجلّيت أيّها المسيح الإله على الجبل وحسبما وسعَ تلاميذك شاهدوا مجدك". "أظهرت مجدك للتلاميذ حسبما استطاعوا".
لذلك أيّها الإخوة والأبناء الأحبّاء، نحن مُعدّون لهذا المجد العظيم الّذي يفوق التصوّرات البشريّة، وبرغم كلّ التنظيرات الماديّة، والإلحاديّة، للحياة البشريّة ومظاهر القدّاسة، إلّا أّن الّذين استحقّوا وعاينوا ما النور الإلهيّ، قد وصفوا لنا ما يحدث باندهاش وواقعيّة، وكأنّهم صاروا من خارج هذا العالم.
كلّ عام وأنتم بخير، مباركة مواسم أتعابكم لجني ثمار أوفر.