قد يكون القدوة الروحيّة على قيد الحياة، أو قد انتقل إلى الحياة الباقية.
ما زلنا على التقليد الصحيح بمنح أحد أبنائنا الجدد اسم أحد القدّيسين من الرسل، والشهداء، والنساك، وعامّة من أسماء من تكرّمهم الكنيسة.
المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
افتتاحيّة البشارة
21 أيلول 2022
كونوا مقتدين بي
الإخوة والأبناء الأحبّاء
نشعر دائما عند الرسول بولص بهذه الغيرة على المؤمنين، وانتظام حياتهم. ومن هذه المرات ما أورده في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كو4: 16) "فأطلب إليكم أن تكونوا مقتدين بي". هذه الآية يكرّرها الرّسول بولص في رسالته إلى أهل كورنثوس مرّات أخرى وبطرق مختلفة، مثل "إقتدوا بي كما أنا بالمسيح" أي أنا أقتدي بالمسيح أو ما أعيشه بحسب تعليم المسيح. مؤكّدا لهم بقوله هذا أنّ ربّنا يسوع المسيح لم يلق علينا حملا فوق طاقتنا بل كما قال: "احملوا عليكم نيري فإنّ نيري هيّن، وحملي خفيف".
إذًا الاقتداء ضروريّ في حال الالتزام بالحياة الرّوحيّة. والطّرق الروحيّة هي أنواع حياة، ولكنّها طرق مع الله، وسبلها تسلك بحسب مرضاته، عكس طرق العالم الّتي تسلك بحسب الأهواء، وابتغاء المتعة، واكتساب المادّة لأهداف بشريّة وماديّة.
يشدّد الرسول بولص على الاقتداء به إذ صارت عنده خبرة روحيّة ليست قليلة، وأورد بعضها في رسائله، وخبر الطرق الروحيّة، وصار يميّز غثّها من ثمينها، وما يصلح منها للنجاح، وما هو المربك في سلوكه، ويؤدّي إلى عكس المبتغى منه.
حتّى في الحياة العالميّة الكثير من جوانبها يعاش بالاقتداء، وذلك لضرورة توخّي الضياع فيما هو جديد على المريد أو التلميذ. وقد دوّن الكثيرون من أهل العالم الناجحين، خبراتهم الشخصيّة، وكيفيّة مواجهتهم لما اعترضهم من كلمات ومواقف ورؤى، أثناء تأديتهم لواجباتهم أو ميولهم ومواهبهم. وتصل درجة الاقتداء حتّى إلى مجالات الفنّ والموضة، ولكن هيهات من الفرح الّذي لا ينزع منَّا، وهذا النوع من الاقتداء لا يؤدّي إلى تحريك ملكوت الله القابع في قلوبنا أو داخلنا.
السعي في الحياة المسيحيّة إلى الطرق الأمثل والتّطبيق الأفضل للحياة مع الله، حتّى يتمرن الإنسان ليصبح مركزا نقيّا وطاهرا، وهيكلا للروح القدس. ولكن في الحياة الروحيّة قد تتداخل الشؤون الروحيّة بالمشاعر النفسيّة فيخطئ الإنسان في طريقه، وقد ينحرف عن التعليم القويم، والرأي السديد.
قد يكون القدوة الروحيّة على قيد الحياة، أو قد انتقل إلى الحياة الباقية.
ما زلنا على التقليد الصحيح بمنح أحد أبنائنا الجدد اسم أحد القدّيسين من الرسل، والشهداء، والنساك، وعامّة من أسماء من تكرّمهم الكنيسة. ونقوم بذلك بغية حضّ الطفل على اتّباع طرق شفيعه، وطلب القداسة، وهو ينمو ويتقوّى بالنّعمة والقامة والحكمة أمام الله والناس.
بالرّغم من كلّ النّجاحات الّتي حقّقها الرّسول بولص روحيّا حتّى الوصول إلى السماء الثالثة، ورؤية ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يحبونه، دائمًا كانت كلمات السيّد، وحياته أمام عينيه يستقي منها معين حياته. كان بإمكانه أن يتكبر وينتفخ، ويطلب المال، ويطلب الرئاسة لنفسه، ولكنّه سعى باتّجاه التواضع، المحبّة، الاحتمال، الصبر، الوداعة، الهدوء، وعدم الإنجذاب وراء مطربات العالم، إلخ.
إذًا علّمنا السيّد بحياته طرق الحياة، وطلب منّا أن نتعلّم منه، ونقتدي به كي لا نضل. وهكذا عاش الّذين تقدّسوا إذ كان ربّنا يسوع المسيح ألفهم وياءهم.
تابع المؤمنون هذا الأمر عبر قرون طويلة فثبتت البيوت على الفضيلة، والمجتمعات على التعاون بمحبّة طمعا بتحقيق ما تعلّموه عن الأخلاق المسيحيّة المأخوذة من الإنجيل، بإيراد عيش السيّد لها الذي لم يعلّم شيئا إلّا واختبره هو أّولا إذا كان صالحا للحياة، أو تجنّبه إذا كان مضرًّا ومفسدا لطريق الخلاص، وأخلاق البشر.
كانت المجتمعات المسيحيّة تسعى لعيش الأعياد كما عاشها القدّيسون ثمّ ينتقلون إلى الملذّات والمسرّات العالميّة، ولكن بكلّ لياقة وترتيب وتمييز. ولا زالت الأديار تعتمد حياة الاقتداء في تدريب الرهبان الجدد وتجعلهم تلامذة لآباء نجحوا في طرق الحياة الروحيّة.
وخير مثال على ذلك تلمذة الأب اسحق عطالله للقدّيس باييسيوس، والكثيرين من أبنائنا أو من اكليروس كنيستنا لآباء من الجبل المقدّس. إذ يتبع التلميذ تعاليم معلّمه، ويستقي من خبرته، ويلاحظ حياته حتّى يتماهى تماما معه في حركاته وسكناته فيستلم الطريق الصحيح ثم يبدأ هو باتباع حياته الخاصّة كما يرشده الروح القدس.
السؤال المطروح في أيّامنا هذه، وبرغم الأعياد الروحيّة الكثيرة الّتي نقيمها هنا وهناك، في هذه المنطقة وذاك الوادي، في تلك البلدة أو المدينة. هل نحن مهتمون بالحياة المقدّسة، وسيرة الشّخص الّذي نقيم احتفالاتنا بمناسبة ذكراه.
في عيد السّيّدة العذراء لا نقيم وزنا للحشمة، والنزاهة، والقداسة. وفي مناسبات أخرى بدلا من أن نتزيّا بأزياء محتشمة نلبس وجوها بربريّة وشيطانيّة، ونستدعي طرقا غير حميدة في إقامتنا للتذكارات، ونتشبَّه بمن لا يقيمون للحياة المسيحيّة واجبا ولا اعتبارا من أهل العالم، وعبّاد الشياطين، ونتصرّف كما نتصوّر أن الوثنيّين يقيمون أعيادهم، وهو ممّا فرضته وسائل الإعلام على أذهاننا، فبتنا نتصوّرهم كما أرادوا لنا أن نتصوّرهم.
وبالرغم من أنّنا في الحياة العاديّة نستقبح هذه المناظر وأهلها لما يفعلون إلّا أّننا في أعيادنا نقلّدهم، وذلك لسبب غياب القدوة الصالحة. وقد عملت الجمعيّات الكثيرة، والأيدلوجيّات، ووسائل الإعلام على تغييب الأفكار والقدوة والكبار والمسؤولين في المجتمع، وفرضت أفكارا جديدة، وأنماطا جديدة من الكلام، واللباس، والطعام والشراب حتّى وصلوا الى عدم تسمية الأب بالأب، والوالدة بالأمّ، فخسر المجتمع تأثير القدوة، وصار كما طرح من ادّعى الإصلاح في القرنين السادس والسابع، أنّ الروح يكلّم كلّ إنسان، وعلى الإنسان أن يطيع قلبه، فالله يخاطب القلب من غير اعتبار لأيّة تعاليم للروح القدس في حياة الذين تقدّسوا، واختبروا الحياة معه.
في المجتمع أمثلة كثيرة عن أهميّة القدوة في حياة الإنسان، وبناء حياته، وحياة المجتمع من خلال المثال.
أسأل الله أيّها الإخوة الأحبّاء أن يهبنا روح التواضع، واستنارة الذهن لنعمل ما يريدنا أن نعمل من مرضاته، وبالاقتداء بأحبّائه الّذين أرضوه في كلّ قول وفعل لنرتقي نحن إلى مماثلتهم، وتجاوزهم فيما بعد إلى درجات أسمى من القداسة.