لقد حرّرنا المسيح من كلّ هذه الارتباطات الزّمنيّة والطّقسيّة، وأعطانا أن نعيش حرّيّة الإيمان، معترفين بأنّه ابن الله الوحيد الّذي اتى فاديا ومخلّصا، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات
كلمة الرّاعي
سيادة المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
في افتتاحيّة البشارة
الأحد 4/12/2022
أتباع التّقويم القديم
لننتبه على سموّ ونقاء أرثوذكسيّتنا
الإخوة والأبناء الأحبّاء،
تعرّضت الكنيسة عبر عصورها لانشقاقات كثيرة، وأغلبها بسبب الكبرياء، أي كبرياء الّذين شاؤوا أن يكون لهم شأن عالميّ، وغير ذلك من المراكز السّلطويّة والقياديّة. بينما الإنسان المؤمن حقيقة يتهرّب من المسؤوليّات والمجد العالميّ وهمّ القيادة ومشاكلها، ولكنّه يضع نفسه للخدمة بكلّ تواضع حيث ترسله الكنيسة، وتطلب منه الخدمة.
ومن أهم أسباب الانشقاقات كانت الهرطقات، والقوميّات، وحبّ السّلطة. والكبرياء شرّ يعمي قلوب المتعلّمين، وأصحاب هوى المجد العالميّ. وهذا بالفعل ما حصل في عشرينيّات القرن العشرين بسبب ما يسمى الانتقال من التّقويم اليوليانيّ القديم إلى التّقويم الغريغوريانيّ (الّذي وضع في القرن السادس عشر) والّذي يختلف عن سابقه بثلاث عشرة يوما.
لقد وجدت بعض البلاد الأرثوذكسيّة ذاتها على علاقة مع دول تعتمد التّقويم الغريغوريانيّ، وبالتّالي لا تتوافق أزمنة العمل مع بعضها البعض. ففي وقت تكون هذه الدّول في العمل، تكون دول شريكة في التّجارة وشؤون أخرى في حالة عطلة، إمّا في الفصح أو الميلاد أوأعياد أخرى موجودة لدى الطّرفين، وبسبب اختلاف التّقويم يحدث اختلاف في وضع النّاس بين متوقّف عن العمل، وبين قائم على عمله.
(ففي عشرينيّات القرت العشرين) في اليونان قرّر المجمع المقدّس اليونانيّ اعتماد التّقويم الجديد في الأدوار الزّمنيّة للكنسية ما عدا الدّور الفصحيّ.فانتقلت الرّوزنامة الكنسيّة الشّهريّة إلى التّقويم الغريغوريانيّ، ولكن الكنيسة لم تعتمد ذلك في تقويم الفصح، لأنّ ترتيب الفصح معتمد من قبل المجمع المسكونيّ الأوّل. وما يقرّه مجمع لا ينقضه أو يبدّله أو يطوِّره إلّا مجمع. ولهذا لم يقبل الآباء بتغيير تاريخ عيد الفصح إلى التّقويم الغربيّ (الغريغوريانيّ).
ولكن بعض الأساقفة في الكنيسة اليونانيّة رفضوا اتّباع ما أقرّه المجمع المقدّس على أساس أنّ الكنيسة قد غيّرت التّقليد. واعتبروا أنّ تغيير الأزمنة اللّيتورجيّة خروج عن التّقليد الأرثوذكسيّ، وحتّى عن الإيمان.
بالحقيقة لم يكن الفصح موحّدا في الكنيسة حتّى المجمع المسكونيّ الأوّل، إذ كان التّقليد الآسيويّ الّذي كان يتباهى بانتمائه للعمل الرّساليّ اليوحناويّ، يفرض عيد الفصح مع اليهود أي يوم فصح اليهود، بينما التقليد الغربي والسّوريّ كان يتبع التّقليد الرّسوليّ الآخر، وهو أنّ فصحنا قد حصل بعد فصح اليهود.
ونعلم من المرويّات التّاريخيّة أنّ القدّيس بوليكربوس زار روما، والتقى أسقفها نيكيتاس وقدّسا معا، وطلب أسقف روما من القدّيس بوليكربوس أن يقدّس القرابين بدلا منه، وذلك احتراما لأصله الرّسوليّ اليوحناويّ، فقد كان تلميذ الرّسول يوحنّا الإنجيليّ، وافترق الأسقفان متّحدين بالإيمان، ولم يتّفقا على موعد واحد لإقامة عيد الفصح.
وكذلك كان هناك تباين في بعض الأزمنة بالنّسبة لأعياد بعض القدّيسين، ولكن هذا لا يفسد وحدة الكنيسة، ولا يؤثر عليها كما لم يؤثّر الاختلاف بالنّسبة لعيد الفصح في عصور الاضطهادات على وحدة الكنيسة وجامعيّتها.
حصل الخلاف المطروح عند أتباع التّقويم القديم، بسبب إصلاح التّقويم الّذي ثبّته البابا غريغوريوس الثّالث عشر سنه 1583، وطالب الكنائس بقبول هذا التقويم، واعتبار ذلك شرطا للاتّحاد والمصالحة مع الكنيسة الرّومانيّة، فلم تقبل آنذاك كنائس الشّرق الأرثوذكسيّة، وبقي الرّوم الكاثوليك حتّى حوادث 1860 في لبنان وسوريا أيّ حتّى أيّام البطريرك كليمنضس بحّوث غير قابلين التّقويم الغريغوريانيّ، ليس هذا بحثنا، بل أتباع التّقويم القديم.
ومن أتباع التّقويم القديم في اليونان نوعان. قسم معتمد مع الكنيسة الأرثوذكسيّة، على سبيل المثال بعض الرّعايا أو العائلات في أبرشية نيابوليس قرب تسالونيك ، هؤلاء يعيّدون الأعياد كافة على التّقويم القديم أو الشّرقيّ، ولكنّهم متّحدون مع الكنيسة الأرثوذكسيّة ويعتبرون أساقفتها رؤساءهم الرّوحيّين، ويجدون كلّ معاملاتهم الرّوحيّة عندهم.
القسم الثّاني، ولأجل سبب بسيط، وهو الاختلاف بالتّقويم أي بالزّمن أعلنوا انفصالهم، وشكّلوا لهم رئاسة روحيّة مستقلة تدبّر شؤونهم.
الملاحظ في هذا المجال:
بالرّغم من أنّ الكنائس الأرثوذكسيّة السّلافية ما زالت تعتمد التّقويم الشّرقيّ في جميع أعيادها وأزمنتها اللّيتورجيّة إلّا أّنها لم تفصل ذاتها عن الكنائس الأرثوذكسيّة الّتي اعتمدت التّقويم الغريغوريانيّ إلّا في الفصح. ونحن عندما نذهب لزيارتهم نشاركهم الخدمة الإلهيّة، ونتناول معهم بالكأس الواحدة، معلنين إيمانا واحدا مطبّقين قول الرّسول بولص: فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب، أو من جهة عيد أو هلال أو سبت...
إذا، إن كنتم قد متّم مع المسيح عن أركان العالم، فلماذا كأنّكم عائشون في العالم، تفرض عليكم فرائض؟
أتباع التّقويم القديم قد حكَّموا في علاقتهم مع الكنيسة الواحدة الثّوابت الزّمنيّة المتغيّرة، وغير الثّابتة. واعتبروا وحدتهم مع الكنيسة التّمسّك بالزّمن اليوليانيّ، واتّهموا الكنيسة الأرثوذكسيّة بالهرطقة وأخذوا يعطون الميرون لمن ينتمي إليهم من الأرثوذكسيّين.
من الممكن أن تكون حركة التّقويم القديم قد بدأت بنوايا سليمة، ولكنّها انقلبت إلى جرح نازف يؤرّق آباء الكنيسة، وتحوّلت إلى جماعات متعدّدة تتهم بعضها البعض، ويقول مؤسّس الرّهبنة الأرثوذكسيّة في أمريكا - أريزونا القدّيس أفرام الأريزوني، إنّها تحوّلت إلى شظايا متغايرة.حتّى إنّهم اتّخذوا لهم بطريركا مسكونيّا، والكنائس الأرثوذكسيّة الّتي تتّبع التّقويم القديم تعتبرهم منشقّين وليسوا هراطقة. ولذلك لا تقيم معهم الشّركة في القدسات.
الويل لمن يشقّ ثوب المسيح أي الكنيسة. آريوس شقَّ ثوب المسيح أي كنيسته فعاقبه الله بما يستحقّه لتأديب غيره، وليكون عبرة لمن يعتبر.
أيّها الإخوة الأحباء، كنيستنا الأنطاكيّة كانت تنعم بالسّلام، من هذه النّاحية، حتّى أواخر التّسعينات من القرن الماضي. فقد ظهر في جبل لبنان شخصان أو ثلاثه من أتباع التّقويم القديم، والّذين لهم مشاكلهم الشّخصية مع الكنيسة، ليس المجال هنا لسردها، فذهبوا إلى أتباع التّقليد القديم في اليونان وانضمّوا إليهم، وعاد أحدهم أسقفا لينشئ لهم فرعا في الكنيسة الأنطاكيّة.
ويبدو أنّهم مصرّون على هذا الأمر، إذ يعمل أشخاص آخرون على إنجاح مرادهم، بحجة أنّ الّذين خرجوا على التّقويم القديم قد خرجوا على الإيمان الارثوذكسيّ، غير مدركين أن الفرق هائل بين التّقليد والتّقاليد. فالتقليد عند القدّيس باسيليوس الكبير هو الإيمان المسلّم للكنيسة بالرّسل وتلامذتهم، وحافظت، وتحافظ عليه. ويختصر هذا الإيمان بدستور الإيمان، واعترافات المجامع المسكونيّة. أمّا التّقاليد فهي متغيّرة، مثل نصّ القدّاس الإلهيّ، وفيه الكلام الجوهريّ، وكلمات التّأسيس وهذه لا تتغيّر لأنّها نصّ كتابيّ، كلام الرّب يسوع لتأسيس سرّ الشّكر.
التّقاليد تتغيَّر، مثلا الثّياب الكهنوتيّة، كانت قلنسوة الكاهن قبّعة مع لفّة، وما زال يستخدمها الأساقفة الصّرب حتّى الآن. أما عندنا فتغيّرت في أواسط القرن الثّامن عشر، وصارت على ما هي عليه اليوم، وكذلك الكثير من النّصوص اللّيتورجيّة. والاحتفالات بالأعياد توجد طرق عديدة للقيام بها، ولكنّ الجوهر واحد وهو إكرام التّذكارات الخلاصيّة، أو العذراء أو أحد القدّيسين.
فالجميع يكرّمون القدّيسين، ويعترفون بقدسيّة من وصل إلى مرحلة القداسة، ولكن كلّ شعب يعبّر عن إقامته لتذكار أحد القدّيسين على طريقته وتقليده. ولا يقول أحد إنّ الآخر هرطوقيّ. فهل نقول أنّ نصّ قدّاس القدّيس باسيليوس خطأ لأنّه ليس مطابقا بالحرف للقدّاس الأنطاكيّ القديم، أو لنصّ قدّاس القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم؟
لقد حرّرنا المسيح من كلّ هذه الارتباطات الزّمنيّة والطّقسيّة، وأعطانا أن نعيش حرّيّة الإيمان، معترفين بأنّه ابن الله الوحيد الّذي اتى فاديا ومخلّصا، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات.
فانتبهوا أيّها الإخوة والأبناء الأحبّاء، من أتباع التّقويم القديم الّذين لأسباب واهية تافهة أعلنوا انفصالهم عن الكنيسة. لقد أدرك مطران فلورينا في آخر حياته أنّه قد أخطأ اذ خرج على المجمع المقدّس بسبب الاختلافات الزّمنيّة، ورفض أن يرسم أساقفة لهم.
لا تعطوهم مجالا ليشوّشوا أفكاركم، ويسبوكم بغرور الكلام، وعذوبة المنطق، وإحناء الأعناق، وتدبيل العيون. لا تنخدعوا بالمظاهر الخدّاعة، ولا تؤخذوا بالكلام، ولا تفتحوا لهم مجالا أن يؤثّروا على وحدة كرسيّنا الأنطاكيّ الّذي حافظ على وحدته عبر المئات من السّنين، بعد أن فعلت الهرطقات فعلها تمزيقا وتشتيتا في أرجائه، ولتبقَ عيوننا مثبّتة، وأفكارنا متّحدة بالكلمة المولود قبل الدّهور الّذي هو فوق الزّمن، وقد جعلنا أسمى من كلّ العالم، وما فيه، ونعمة الله لتكن معكم جميعا.