المظاهر المفيدة هي مفتاح الأبواب الى أعماق الأهداف
كلمة الرّاعي
المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
في افتتاحيّة البشارة
الأحد 15/1/2023
الإفادة بين العمق والظّاهر
الإخوة والأبناء الأحبّاء،
مرّت الأعياد المجيدة بين الميلاد وعيد الظّهور الإلهيّ، وأقام النّاس أفراحهم ومسرّاتهم بطرق مختلفة. فمنهم من أقام الصّلوات، والأفراح مقرونة بالصّلوات، ومنهم من اكتفى بإقامة الأفراح في الأعياد. فهل هذا كافٍ؟ بكلّ تأكيد التّظاهر بأفراح العيد، والالتزام بها، ونسيان العيد وصاحبه وأهداف الحدث الأصليّ، غير كافٍ ليقيم الإنسان ذكرى معيّنة.
لأنّ إقامة الذّكرى على اختلاف أنواعها لا تعتبر مثمرة إذا بقي الإنسان عند حدودها، وكأنّها تاريخ مضى، لا يستفاد منه شيئًا. لذلك وجب أن نغوص الى أعماق الذّكرى، ولا نبقى عند شطئانها الضّحلة. وأن نعيشها، ونتأمّل في معانيها لنطبّقها، وكأنّنا نحن القائمون بالحدث.
ولكن، هل دائمًا المظاهر مضرة؟ أو إعلان البهاء الخارجيّ يجعل من الحدث بلا فائدة؟ بكلّ تأكيد لا، في غالب الأحيان، إعلان الحدث إلى الظّاهر يؤدّي نتائج حسنة جدّا. وإذا كانت الأعمال الخارجيّة لحدث ما تسيء الى معانيهن فلماذا إذن رتبت الكنيسة هذا الجمال الغنيّ الرّائع الّذي نشاهده في الرّسم الكنسيّ، في البناء الدّينيّ، في التّرتيل والتّسبيح. ألا تساعد الرّسومات الجداريّة، وغير الجداريّة في إعلان كلمة البشارة لغير القارئين؟ وتساعد المصلّين على التأمّل بالأحداث الّتي شكلّت إيمانهم، أو المتعلقة بأشخاص هذا الإيمان؟ لهذا يطالبنا الرّسول بولص أن يكون كلّ شيء بلياقة وترتيب.
أليست الطّريقة الّتي تؤدّى بها فضيلة العطاء تزيد من بهائها. الله يحبّ المعطي المتهلل. وعلى المعطي المتهلّل أن يعلن فرحه بالعطاء من خلال تعابير الوجه، والكلمات المعزيّة المشدِّدة، كيلا يظنّ المستعطي أن العاطي منزعج.
هل يجوز ألّا نتوّقف عند كلمات النّبيّ داود: "طوبى للّذين يحبّون جمال بيتك يا ربّ"، وما إلى ذلك ممّا ورد في العهد القديم حول الاهتمام بترتيب بيت الرّبّ بالرّسومات والمنحوتات الجميلة الّتي أعطى الرّبّ كلّ حكمة لإتمامها. ألم يرتّب ثياب الكهنة، ورؤساء الكهنة، ويزيّنها بالأّحجار الكريمة.
إنّ المظاهر المعلِّمة تقود الإنسان إلى العمق. وكم من النّاس جذبتهم مظاهر العبادة إلى عمق العبادة واعتناق الإيمان، وخير دليل على ذلك دخول الأمّة السّلافيَّة، وخاصّة الرّوس، في الإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ.إذ قال الوفد الذّاهب الى الأمم، للبحث في أيّ من الأديان يناسب الأمة الرّوسيّة، للأمير فلاديمير مرسلهم: عندما دخلنا القسطنطينيّة، دخلنا إلى كنيستها الكبرى وقت الصّلاة، فلم نعرف نحن أين كنّا، أفي السّماء أم على الأرض، وذهبت تعابيرهم هذه مثلًا على عظمة الإيمان الأرثوذكسيّ. فهل هذه المظاهر أضرّت بإيمان الرّوم آنذاك، أم نقلته إلى شعب، الفخر لكلّ العالم بما ينجزه ويقدّمه.
في الحالات العاديّة، عندما تحلو الأصوات، وتنتظم النّغمات، يعبّر النّاس عن مشاركتهم في الصّلاة، وعن سرورهم. حتّى عندما تمتلئ الكنيسة بالمصلّين يفرح المؤمنون بالمشاركة مع أنّ المصلّين لم يدخلوا كلّهم إلى أعماق الصّلاة.
حتّى هذه السّاعة تؤدّي الكاتدرائيّات الكبرى فوائد جمّة للأمم الّتي أقامتها، وتندمج هذه المباني في هويّتها. فمن يذكر باريس، ولا يذكر برج إيفل، وكنيسة السّيّدة العذراء؟ من يذكر روما، ولا يذكر الكولوسيوم، ولا يذكر كنيسة القدّيس بولص، وكنيسة لاتيران؟ من يذكر القسطنطينية، ولا يذكر كنيسة الحكمة المقدّسة؟ من يذكر مصر ولا يذكر أديارها وإهراماتها؟
ولكن يجب أن نتدارك القول هنا، بأنّه ليس بكافٍ أن نبقى عند الإطار الخارجيّ، الذّي يبقى مرحلة ينبغي تجاوزها إلى الأعماق والأهداف المرتبطة بها. لأنّنا إن بقينا عند المظاهر الخارجيّة، ولم ندخل إلى الأعماق سنتجمّد، ونَفتُر، ونَمُلّ، ويصبح المظهر بعد ذلك بلا معنى عميق.
ولهذا نرى في هذه الأيّام الكنائس تباع، ويصل النّاس في كثير من الأحيان إلى مرحلة اليأس، ويكثر الإلحاد والانتحار. وكما قال ربّنا يسوع المسيح بعبارة شهيرة: "لا تتركوا هذه، ولا تهملوا تلك". فكلّ فكرة لها مظاهرها الّتي تعبّر عنها، وعلى المظاهر الخارجيّة أن تقود إلى الدّاخل فلا نبقى عند جمال الأيقونات، والتّسابيح، ونظمها الشّعري والبلاغيّ. ولكم أخرجت ركاكة اللّغة أناسًا من الكنيسة، وكم أدخل عدم التّرتيب التّأفّف إلى النّفوس، وهكذا بالنّسبة لأشياء كثيرة، ولكن ملكوت الله في داخلنا.
فالمظاهر المفيدة هي مفتاح الأبواب الى أعماق الأهداف.
في الأديار تعطى القوانين للرّهبان، وعندما يعتاد الرّهبان على الحياة الدّيريّة، ويتمرّسون في النّسك داخل غرفهم، ضمن الحياة الجماعيّة، يطلب منهم وبإرادتهم الانتقال إلى المناسك الدّيريّة، وهناك لا يقيم النّاسك كلّ الاهتمام للعبادات التّيبيكونيّة، بل يقومون بها بحسب ما وصلوا إليه من أعماق الحبّ الإلهيّ الّذي حصلوا عليه بترتيب الحياة الدّيريّة.
وهكذا، نحن لا نطلق أحكاما على غيرة محبّي الله الّذين يشيّدون الكنائس والأديار بحجّة إطعام الفقراء، وإبقاء المصاريف على المباني الحجريّة وما شابهها، بل فلنمجد الله على كلّ جمال وضعه في نفوسنا للتّعبير عن حبّنا له، وتعلّقنا به، غير مهملين ضيافة الغرباء، وغير ناسين أنّ الدّيانة المقبولة عند الله هي افتقاد اليتامى والمرضى والأرامل في ضيقاتهم.
وأنصح بأن نهتمّ بمظاهر الإيمان لكي يترسّخ في أذهاننا، وفي أذهان أبنائنا. فالأيقونات في البيت إضافة إلى أنّها بركة، حضورها ينمّي الشّعور بالتّقوى وهوى الافتداء. كذلك رسم إشارة الصّليب. ولا يثبت في المظاهر العباديّة واللّيتورجيّة من لم يتعمّق في الأهداف والتّعلّق بها.