بطرق عديدة أظهر الله له المجد على يد موسى عجائب وقوى، إذ اندلعت النّار في العلّيقة ولم تحترق، وكانت رمزا لما حدث للسّيّدة العذراء الّتي حملت بنار اللّاهوت، ولم يصبها أذى.
كلمة الرّاعي
سيادة المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
4 شباط 2023
استخدام موجودات الطّبيعة لأهداف خلاصيّة
هذا سؤال يُطرح كثيرا على أذهان المؤمنين، فمنهم من يؤكّد أنّ الله يستخدم الموجودات ليبرهن عن إرادته، ويضع في هذه الموجودات من قدرته. ولكن هل هذه الموجودات لها دور عجائبيّ، ومفاعيل ما فوق الطّبيعة.
من الكتاب المقدّس نعلم أنّ الله قد استعمل الموجودات الطّبيعيّة للتّعبير عن إرادته في حادثة تقديم الخروف الّذي ظهر عجائبيّا لإبراهيم، ودلّه الملاك عليه مانعا إيّاه من ذبح ابنه إسحق. ولهذه العجيبة دلالات أخرى، فقد نبّه الله البشر بهذه العجيبة ألّا يعودوا ويقدّموا ذبائح بشريّة، مطالبا إيّاهم بالاستعاضة عنها بالذّبائح الحيوانيّة. ففي كلّ الشّريعة في العهد القديم لم يتطرق الكتاب إلى ذبائح بشريّة كوفاء لنذر إلّا نذر يفتاح، وتظهر الحادثة الألم الّذي أحاق بالأب والبنت نتيجة لنذر الذّبيحة البشريّة. بطرق عديدة أظهر الله له المجد على يد موسى عجائب وقوى، إذ اندلعت النّار في العلّيقة ولم تحترق، وكانت رمزا لما حدث للسّيّدة العذراء الّتي حملت بنار اللّاهوت، ولم يصبها أذى. بعصا موسى الّتي انقلبت إلى حيّة تتلقّف أفاعي السّحرة، والّتي كان بها موسى يقود الشّعب، فضرب البحر فانشقّ، والصخرة فتدفّقت منها المياه، وأرسل له المجد المنّ والسّلوى طعاما للشّعب. ثمّ الحيّة على سارية، وكلّ من كان ينظر إليها كان يشفى من لدغة الأفاعي، رمزا للصّليب.
عظام أليشع أقامت الميت، وإيليا النّبيّ بالنّار أظهر قدرة الله واستجابته لخائفيه الطّالبين منه المعونة والبرهان. ألم يوقف الله له المجد الشّمس ليشوع بن نون حتّى انتهى من حربه؟ وهكذا نرى أهميّة التّعبير بالأشياء الماديّة عن حضور ووجود النّعمة.
وبعد أن أخرج الله الشّعب من أرض مصر، وجرت أحداث كثيرة لا عدد لها. ماذا قال الله لموسى. طلب منه أن يعلّم الشّعب كيف يروون لأبنائهم كلّ هذه الأحداث، وأن يحفظوها في قلوبهم. فهل هذا الطّلب هو تلقين لدرس تاريخيّ؟ وعندما أوصاهم بأن يأكلوا خروف الفصح في كلّ عيد فصح، ويلطخوا أبوابهم بدمائه، فهل كان يريد منهم أن يخرجوا من أرضهم، أم أن يتذكّروا ما فعل الله معهم من العجائب والمعجزات؟ بكلّ تأكيد أراد أن يحافظوا على هذه الذّكرى لثبات التّقوى وغرس المحبّة نحوه من جيل إلى جيل، ولكي يبقى الشّعب متذكّرا ومعاينا البوصلة الّتي أوصلته إلى برّ الأمان.
بهذه التّذكارات المتكرّرة ينمو الإيمان، ويتحقّق الشّعور بالامتنان لله على عطاياه، فيشارك النّاس وهم على الأرض بهذا التّكريس.
طلب الله من هرون أن يمسح بالميرون أي بالطّيب الكهنة والمذبح وغير ذلك، فهل لا يستطيع سبحانه وتعالى أن يباركها ويرسل نعمته المقدَّسة عليها من غير استعمال الطّيوب؟ وبالرّغم من أنّها رمزيّة، تدلّ على حلاوة النّعمة الإلهيّة، وتحمل في كثير من الأحيان هذه النّعمة. إنّ تكرار التّذكارات المقدَّسة، والتّعييد لها ينمّي في الإنسان التّقوى لأنّه بتكرار أفعال التّقوى يتطهّر عقله، ويخلو من الصّور الفاسدة، ويصبح ذهنه نظيفا طاهرا، كما فعل الرّاهب الّذي ملأ السّلّة المتّسخة بالماء عدّة مرّات فنظر إليها أخيرا فرأى أنّها قد صارت نظيفة.
وفي حياتنا اللّيتورجيّة تكرار للتّذكارات الخلاصيّة، وقد أوصانا ربّنا يسوع المسيح أن نقيم تذكارا لآلامه والحوادث الخلاصيّة الّتي مرّ بها. نحن في القدّاس الإلهيّ نقيم هذه التّذكارات، ونقول بعد تلاوة الكلمات السّيّديّة: "خذوا كلوا... واشربوا منها كلكم..."."بما أنّنا متذكّرون هذه الوصايا الخلاصيّة، الصّليب، والقبر، والقيامة، والصّعود إلى السّماوات، والجلوس عن الميامن، والمجيء الثّاني الرّهيب..." ثمّ نطلب تحويل الخبز والخمر إلى الجسد والدّم الطّاهرين، والخبز والخمر من المواد الطّبيعيّة.
نحن لا نقيم فقط تذكارا لحوادث الفداء الخلاصيّة، بل ونقيم تذكارا سنويّا للظّهور الإلهيّ، ويبدو أنّ الطّبيعة مازالت حتّى الآن تعيد التّذكار ذاته كما حدث، فهرب الإردن، والبحر رجع الى الوراء.
لذلك إذا قبلنا هذه التذكارات متهيئين لقبول النعمة، فالله يرسل نعمته المقدَّسة، فسنشعر أنّنا قد حصلنا على نعمته. فالقبول بالرّضى وبشغف لما يحدث في هذه التّذكارات يجعل منّا هياكل نقيّة للرّوح القدس، وموئلا للنّعمة وبها، أي بإعادة هذه التّذكارات نعلّم أبناءنا من الحوادث الخلاصيّة فتنطبع في أذهانهم، وتحتل حيّزا من مشاعرهم، وتنغرس في عقولهم، فيتقدسون، ويستمرّون بهذه العلاقة مع الله، ومع القدّيسين.
ألا يقول المثل: "قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت"؟ فالإنسان الّذي يكتسب التّقوى ويثبت فيها، كيف يكسبها وكيف يثبت فيها، إذا لم يقم بهذه التّذكارات دائما؟ وتكرار القيام بالتّذكارات المقدّسة يولّد في الإنسان قوانين وطرق حياة، وينمّي عنده مشاعر المحبّة، والمشاركة مع الآخرين.
ومن هذه الأمور الّتي نكرّرها في كلّ عام، وعندما يطلبها أحد المؤمنين، تقديس الزّيت وتقديس المياه. تقديس الزّيت مسحة للمرضى، وهي من وصايا الكتاب المقدَّس. "أمريض أحد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بالزّيت باسم الرّب، وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرّب يقيمه، وإن كان قد فعل خطيئة تغفر له". (يع14:5). إنّنا نقيم هذا السّرّ كلّ عام في يوم الأربعاء المقدّس تهيئة لنا ليوم الخميس العظيم، والّذي هو اليوم الّذي يتناول به المؤمنون الجسد والدم الطّاهرين، ثمّ يكملون مسيرة الجهاد إلى يوم الأحد المقدّس أحد القيامة.
يأخذ المؤمنون من الماء المقدٍّس إلى بيوتهم، ويحتفظون به طيلة العام، ويستخدمونه بإعداد الخمير للعجين، وكذلك بإعداد القرابين الّتي تقدّم في الكنيسة، وفي الكثير من الحالات. لكم نسمع عن عبوات من المياه المقدَّسة بقيت محافظة على طبيعتها حتّى بعد مرور شهور وسنوات.
بصلاة تقديس المياه نطلب من الله (الإكليروس والشّعب) أن يرسل نعمة روحه المقدَّسة على المياه، وهي ذات الصّلاة الّتي تقال على مياه المعموديّة مع تلاوة عظة القدّيس صفرونيوس الأورشليميّ، والّتي فيها يعدّد مآثر مشاركة الطّبيعة في هذه الحوادث، متأمّلا بما حدث للبشريّة والطّبيعة بحدث الظّهور الإلهيّ.
في الأزمنة القديمة كان تقديس المياه يجري كلّ شهر، وكذلك تكريس البيوت، ثمّ اقتصر الأمر على عيد الصّليب في أيلول، وعيد الظّهور الإلهيّ. والمؤمنون يعبّرون عن فرحهم بمجيء الكاهن ورشّه لبيوتهم بالمياه المقدَّسة، مع أنّهم يكونون قد أحضروا بعضه معهم لاستعمالات مستقبليّة كما ذكرنا. وكم يعاتب المؤمنون الأتقياء الكهنة إذا لم يعبروا ببيوتهم ويرشّوها بالمياه المقدَّسة، وبهذا يرى المؤمنون أنّهم يكرّسون بيوتهم ومالهم لله. وهنا لا نقول تقديس البيوت، بل تكريس البيوت.
وفي الكثير من الأمكنة قد تراخى الكهنة والمؤمنون عن إتمام عمليّة التّكريس، وراحوا يقتصرون في العمل هذا على الّذين يطلبون تكريس بيوتهم.
يتساءل البعض هل من الضّروريّ قيام الكهنة بتكريس البيوت، ألا نستطيع نحن ذلك؟ نعم. وكذلك نستطيع مسح المريض بزيت مقدَّس صلّى عليه الكهنة، ولكن الكتاب يقول: "أمريض أحد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة"، ولم يقل صلوا عليه، وادهنوه بزيت باسم الرّبّ.
فالكنيسة كنيسة مواهبيّة، عمل الكهنة فيها أوّلا تقديسي، ثمّ تعليميّ، وبعد ذلك استفقاديّ وإداريّ.
أسال الله أن يقدِّس حياتنا جميعا بكلّ الطّرق الّتي عاشها آباؤنا القدّيسون لكي نكون، ونكوّن مجتمعا مرضيّا لله.