افتتاحية البشارة

افتتاحية البشارة

الأحد 29 تشرين الأول 2017

كلمة الراعي الإخوة والأبناء الأحباء، من عادة المؤمنين في العصور القديمة أن يتناقلوا الأخبار فيما بينهم ليكون الخبر السار مدعاة فرح عند المؤمنين في الرعايا البعيدة والقريبة. أو إذا كان الخبر ناقلاً لحالة ضيق أو حزن، ليحمل المؤمنون بعضهم بعضاً على أجنحة الصلاة، ويبادروا الى التعاون والتضامن. ولنا خير مثال على ذلك رسائل القديس باسيليوس، ويوحنا الذهبي الفم وغيرهم من آباء القرن الرابع والخامس. وكما يكتب الرسول بولص في الكثير من رسائله، فيصف لأهل الرعية التي أرسل إليها رسالة عن فرحه أو حزنه في وصفه لحالة الرعايا الأخرى، فيكتب عن النجاحات أو الإخفاقات. وناقلوا الرسائل ما كانوا يكتفون بذلك بل ويخبرون شفوياً عن أشخاص وأوضاع يعتبرون مثالاً للتشجيع والإقتداء. في توجهي هذا الى محبتكم أكتب اليكم عن إنطباعاتي خلال زيارتي لصربيا والجبل الأسود خلال الأيام الماضية. هذه البلاد المسمّاة سابقاً يوغوسلافيا، والتي كان لها مع بلادنا أطيب العلاقات والتضامن بالنسبة لحقوقنا الوطنية. كانت الزيارة برفقة الأخوين متروبوليت حوران وجبل العرب سابا اسبر، ومتروبوليت المانيا وأوروبا الوسطى اسحق بركات. كان اللقاء الأول مع صاحب الغبطة البطريرك إيريناوس الذي استقبلنا كما قيل لنا ببروتوكولات رفيعة المستوى وأعطانا من وقته الكثير برغم إنشغالاته، وهو من رجالات الله الصوّامون والمصلّون. قمنا بزيارة كلية اللاهوت، ثمَّ تتالت الأيام، زرنا خلالها عدداً من الأبرشيات والأديار الرهبانية الناشئة اما برهبانها، واما بعمرانها ورهبانها، وتتمتع كنيسة الصرب في هذه الأيام نهضة روحيّة كبيرة يعبِّر فيها الشعب وقادته الروحيون عن شوقهم للعودة الى الجذور   

وبين هؤلاء القادة الروحيون عدداً كبيراً من اللاهوتيين ذوي السمعة العالمية.

 

سألت مجموعة من الشباب إلتقيناهم في أحد الأديرة هل تشعرون بأن هناك ترابط بين الهويّة القوميّة وإيمانكم، فكان جوابهم قوميتنا هي أرثوذكسيتنا، وأرثوذكسيتنا هي قوميتنا، معبرين بذلك عن الإرتباط الحضاري والتاريخي بين الشعب وإيمانه، وأكدوا أنهم قبل إيمانهم كانوا قبائل بدائية. وقد لعبت الكنيسة الأرثوذكسية دوراً كبيراً شاملاً في إدخالهم العالم المتحضّر آنذاك.

 

وكما هي الأديار في بلادنا هكذا الأديار في بلادهم، محطّ إهتمام وتقدير من قبل الشعب. وخاصة أن الأديار منتجة لأنواع كثيرة من المنتجات بدءاً بالزراعية مروراً بأعمال التجارة والألبان والأجبان والخمور والرسم الجداري والخشبي الخ. وتقع أغلب الأديار في مناطق هادئة ذات مناظر رائعة، ويكن الشعب الصربي تقوى عظيمة لقديسيه، ويتبركون برفاتهم وقد حافظوا عليها ككنوز أثمن من الحجارة الكريمة والذهب المدَّخر لأوقات الحاجة. مما لفت نظرنا في جداريات كنائسهم ورسم أيقوناتهم، الترابط بين التاريخ والقداسة في تعبيرهم عن تخليد ذكرى قادتهم الروحيين والزمنيين. وقد ذكرني هذا الأمر بما كتبه الشماس بولص ابن الزعيم عن قيصر روسيا وعائلته، إذ كان يحضر الصلاة بالساعات وخاصة في زمن الصوم والفصح.

 

في أوروبا كان الملوك والأمراء يبنون الكنائس الكبيرة والكاتدرائيات العظيمة ليعبِّروا من خلالها عن شكرهم لله بمناسبة إنتصاراتهم. وكان الأمر ذاته خلال حكم العثمانيين لتلك البلاد من أوروبا الشرقية. أن الأمراء والملوك كانوا يبنون الكنائس والأديار تذكاراً يخلِّد إنتصاراتهم. حتى أن أحد أمراء الرومان بنى أربعين كنيسة تخليداً لإنتصاراته.

 

في هذه الأيام يكمل المؤمنون هناك بناء كنيسة القديس سابا الصربي، وتعتبر من الكنائس الكبرى في العالم.

 

خلال إقامتنا معهم تعرّفنا على شعب عَرَكه التاريخ، وهذّبته الشدائد، ورسَّخته على صخرة الإيمان، بالرغم من كل التيارات العلمانية والإلحاديّة. والصرب على أخلاق عظيمة في تعاملهم مع الشعوب.

 

من صربيا إنتقلنا الى الجبل الأسود، ولهذه التسمية أكثر من سبب أولها أن شعب الجبل برغم قلة عدده 650 ألف نسمة كان شديداً على المحتلين فدعوه بدلاً من الجبل الأخضر بالجبل الأسود. وقيل لنا أنه لكثرة غاباته يسميه سكان إيطاليا من الجهة المقابلة للجبل، بالأسود إذ هكذا يبدو لهم من بعيد.

 

يرأس الأبرشية المتروبوليت أمفيلوخيوس. وهو من رؤساء الكهنة المشهود لهم عالمياً، يهتم بالحياة الرهبانية، وبناء الكنائس. والحياة الرهبانية في الجبل الأسود ناشطة، رعائية. وقد نمت ونشطت أيام مطرانها الحالي.

 

ذكر لنا هو أن الرهبنة على المرأة كانت ممنوعة بحجة أن عمل المرأة يقتصر على إنجاب الأبطال وتنشئتهم. ولكن، يقول هو وعمل الراهبات أن يربين الأجيال على شتى أنواع البطولية الروحية والقوميّة.

 

يتميّز الأرثوذكس في تلك البلاد بصداقتهم مع القديسين. فإضافة للعلاقة

 

الشخصية بين الشخص وأحد القديسين، كالأسم المعطى في المعموديّة هناك الصداقة العائلية. فقد درجت العادة أن يكون لكل بيت، لكل عائلة شفيعاً، تقيم له تذكاراً تعبر فيه عن أفراحها وتضامنها وتجديد أواصر المحبة فيما بينها.

 

عدنا وفي قلوبنا فرح غامر بسبب ما عاينّاه ولمسناه في تلك البلاد الواعدة روحياً وحضارياً. وعندهم إحترام كبير لبطريركية انطاكيا وسائر المشرق.

 

ذكر لي مرَّة أحدهم أن انطاكيا بطريركية كتابية، قطعة من الكتاب المقدّس.

 

هكذا عدنا متشددين فرحين متأكدين أن الله متمٌّ نوره.

 

أسأل الله أن يعمّ السلام التام القلوب والنفوس في جميع العالم وفي بيوتكم. ويشدّد عزائمكم لما فيه الخير والنجاح والفلاح بشفاعة قديسيه. آمين.

 

باسيليوس

 

 

مطران عكار وتوابعها