إنّ الفضيلة توحّد القلوب، والنّعمة تجعل المؤمنين جسدا واحدًا له إله واحد، وربّ واحد، ويغتذي بالحضور عند الله فلا يعود يحتاج لمال، ولا طعام، ولا شراب، ولا شمس، ولا قمر بل الرّبّ يسوع المسيح يكون له ولنا كلّ شيء.
المتروبوليت باسيليوس منصور الجزيل الاحترام
يكتب افتتاحية البشارة
26-تشرين الثّاني-2023
شخص واحد في كلّ الأحوال
الإخوة والأبناء الأحبّاء،
ما بين الرّسالة والإنجيل اليوم توافق شديد، وانسجام في المعاني، والسّبل، والهدف.
إذ يقول الرّسول بولص في رسالته: "يا إخوة أطلب إليكم أنا الأسير في الرّبّ أن تسلكوا كما يحقّ للدّعوة الّتي دعيتم بها بكلّ تواضع ووداعة..."الخ. وقال الرّبّ للشّاب الّذي جاء يسأله عن أفضل الطّرق للسّلوك إلى ملكوت السّماوات. فقال له عن الوصايا العشر، وهذه يعتبرها الكثيرون وافية كافية لمن يريد الخلاص، ولكنّ السّيّد قال له واحدة تعوزك بعد، أن تبيع كلّ ما لك، وتعال اتبعني. فالمال سيِّد يسود على الإنسان، ويمتلك مشاعره كما يسود الله بمحبّته، ويمتلك مشاعر الإنسان الّذي كرَّس نفسه له.
بسابق معرفته علم السّيّد أنّ هذا الشّاب متمسّك بماله، ويعطيه جلَّ اهتمامه، ولو كان قد حفظ الوصايا كما يجب لما صعب عليه أن يبيع كلّ ما يملك ويوزعه على الفقراء. ولكن لأنّ محبّة المال هي أمّ لجميع الشّرور، كيف من اتّكل على ماله يستطيع أن يحبّ الآخر كنفسه. فقول الرّبّ له واحدة تعوزك، أن يبيع ما له ويوزعه على الفقراء، لا يخرج عن الوصيّة "أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك، وكذلك قريبك".
الأحد الماضي تبيّن لنا كيف يتصرّف المتّكلون على المال، وغير الممتلئين من الله.
ولا يستطيع أن يطبّق الوصايا العشر من لم يصعد إلى جبل التّطويبات، ويسمع السّيّد قائلا التّطويبات، وكيفيّة محبّة الله حتّى النّهاية.وهي أن يحبّ الإنسان الله من كلّ نفسه، وقلبه، وذهنه، وألّا يبقي غيره في اهتمامه. فكيف يحبّ قريبه من يجمع المال في الوقت الّذي يكون فيه هذا القريب جائعا، أو مريضا، أو غريبا، أو عطشانا، أو عريانا، أو محبوسا.
والّذين يملكون المال، ويتّكلون عليه، عادة يكونون من المتكبّرين كالّذين يفتخرون بنسبهم متفاخرين على الأمم، والمثقّفين الّذين يتفاخرون بثقافتهم، وإلى ما هنالك من مجالات التّفاخر والكبرياء. وبالتّالي لا يمكن لمن يأتي إلى الرّبّ يسوع، وهو منشغل بكلّيّته بأمور الحياة، لدرجة أنّه يحزن إذا فقدها أن يعيش مع المؤمنين بسلام ووداعة، ولا أن يعيش بالمحبّة، ولا أن ينخرط في الحفاظ على وحدة الرّوح برباط السّلام. وطالما أنّ رجاءه على ماله، فلا يمكنه أن يكون مع البقيّة على رجاء واحد، كما دعي الجميع إلى رجاء دعوتهم الواحد، وعلينا أن نثبت أنّ دعوتنا، والموهبة المعطاة لنا هي من الرّبّ يسوع المسيح، وأن نفعّلها لمجد اسمه القدّوس.
هنا يمكن أن يسأل إنسان، كما تساءَل الكثيرون حول الرّبّ يسوع المسيح آنذاك، من يستطيع إذا أن يخلص؟ فكان الجواب كلّ ما هو غير مستطاع عند البشر مستطاع عند الله. أي إنّ الله يتدخّل في حياة النّاس ليقوّم إعوجاجهم، ويشدّد من عزيمتهم، ويقوّي ضعفهم لكي يكمّلهم هو، ومن هنا جاءت كلمات القدّيس اسحق السّريانيّ "عدل الله في رحمته"، وكذلك قول الرّسول بولص: "قوّتي في الضّعف تُكمَل". وهكذا اتّكل الآباء القدّيسون في حياتهم على الله غير حاسبين أنفسهم شيئًا ساعين قدر الاستطاعة والموهبة التي أعطيت لهم، ولم يتلهّوا في مواجهة ضعفاتهم، بل دائمًا كانت عيونهم وأنظارهم مثبّتة على الهدف الأوّل، وبالتّالي لم يكن شيء ليحزن المجاهدين الواصلين منهم.
قيل أنّ أحد الآباء زار منسكًا لبعض الآباء، ودخل إلى البستان، وأخذ يدمّر ما فيه، ولمّا لم يبق إلّا القليل، قال له أحدهم أترك لنا شيئًا نستضيفك به. عند ذلك قال لهم بالحقيقة قد وصلتم، عانيًا بذلك ضبط الهوى، وعدم التّلهّي بشؤون هذا العالم.
لنصلّ ونجاهد أيّها الإخوة والأبناء الأحباء، جهادًا طيّبًا، يخلّصنا من التّعلّقات البشريّة، ويلهمنا الطّرق الّتي يمكننا بها أن نستخدم الأشياء، وما في هذا العالم، لنمجد اسمه القدوس، ولكي نوجد في حالة الرّضى من قبله.
العالم بحاجة إلى المادّيّات كي يعيش، ولو لم يكن كذلك لما ضرب لنا الرّبّ مثلا عن العبد الأمين، والعبد السّيّء، ولا عن فعلة الكرم. وكلّها مأخوذة من صميم الحياة. وعلّمنا كيف يمكننا أن نجعل كلَّ شيء للحصول على مرضاته، ولنكون على مقدار الدّعوة الّتي دعينا بها.
إذ نعمل وعيوننا مثبّتة عليه، نسافر وهو دائمًا في فكرنا، لا يشغلنا عنه شيء، ونقوم بالأعمال بكلّ استقامة فيرضى هو ويعرف أنّنا غير متعلّقين إلّا به، ننصت بآذاننا الى وشوشات الرّوح، وترهف أذهاننا وأحاسيسنا لعبوره الطّيّب الّذي يكون على القلوب أكثر بردا واطمئنانا من كلّ ما يريحنا ويطمئننا.
إنّ الفضيلة توحّد القلوب، والنّعمة تجعل المؤمنين جسدا واحدًا له إله واحد، وربّ واحد، ويغتذي بالحضور عند الله فلا يعود يحتاج لمال، ولا طعام، ولا شراب، ولا شمس، ولا قمر بل الرّبّ يسوع المسيح يكون له ولنا كلّ شيء.
متروبوليت عكّار وتوابعها
باسيليوس