في الصّيام نحن نتصالح مع الكون، ونعفّ عن زبح الحيوان لنحيا اكتمال هذه المصالحة، أفيجوز أن نعادي بعضنا بعضا؟ إنّ تنقيّة القلوب تعطي الصّوم مقاصده في مسار حياتنا المسيحيّة.
كيف يكون صومنا مباركا؟
تقول كتبنا الطّقسيّة في خدمة سحر الاثنين، بعد أحد مرفع الجبن :"إنّ استقبال عيد الامساك لمبهجٌ، وابتداء الصّيام في هذا اليوم لَمُضيءٌ. هلمّ أيّها المؤمنون لنستقبل زمان الصّيام الشّريف المقدّس بنظام هادىء وعزمٍ نقي طالبين الغفران"
ما يلقي بنا في قلب الخدمة، وهو السّلوك الأسمى لأيّ مسيحيّ يسعى لتحقيق إنسانيّته المخلوقة على صورة الله ومثاله، وتتجلّى بإطعام الجياع، ورفض الظّلم، وبناء فرص العدالة، والالتزام بقيم الحقّ.
في الصّيام نحن نتصالح مع الكون، ونعفّ عن زبح الحيوان لنحيا اكتمال هذه المصالحة، أفيجوز أن نعادي بعضنا بعضا؟ إنّ تنقيّة القلوب تعطي الصّوم مقاصده في مسار حياتنا المسيحيّة. وفي هذا السّياق يوصينا القدّيس باسيليوس الكبير: "إحذر أن تصوم فقط عن اللّحم وتظنّ أنّ هذا ما يُطلب منك، إنّ الصّوم الحقيقيّ هو الامتناع عن كلّ رذيلة… إنّك ربّما لا تأكل لحما لكنّك تنهش لحم أخيك، إنّك تمتنع عن شرب الخمر ولكنّك لا تلجم الشّهوات الحمراء الّتي تلتهب في نفسك… ولست أعني بالصّوم ترك المأكل الضّروريّ لأنّ هذا يؤدّي إلى الموت، ولكنّي أعني ترك المأكل الّذي يجلب لنا اللّذة ويسبب تمرّد الجسد. تكملة صوم مباركة إخوتي، ولتكن أعمالنا صلاة وتسبيحا دائميَن للرّبّ.
في الصّيام نفعّل جهادنا في وجه الأهواء، ونعمّق فهمنا لوصيّة القدّيس بولس: ""فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ،" (كو 3: 5). وليس بالنّفس النّاموسيّ كفريضة، إنّما انطلاقا من محبّتنا لله الخالق الّذي أعطانا كلّ شيء، وبذل نفسه حتّى الموت. لذلك محبّتنا له، وانسجامنا مع ذواتنا يجعلاننا نبتعد عن إغضابه، وبالمعنى التّقريريّ في لاهوت كنيستنا، فكل إنسان لا يسعى إلى إغضاب من يحبّ، لذلك أردف القدّيس بولس، بعد ان حذّرنا من الزنا والنّجاسة... قائلا: "الأُمُورَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ،" (كو 3: 6).
رداءة الشّهوة تظهر هذه الأيّام في العالم بطريقة وقحة تتجلّى بتشجيع إنكار الإنسان لهويّته الّتي فطر عليها، ذكرا كان أم أنثى، حتّى تحمله إلى التّماهي مع الحيوانات والزّرع في محاولة واضحة لتشويه صورة الله في الإنسان، وهذا من عمل الشّرير، ونحن في الصّيام نتقوى لنواجه كلّ رذالة يضّعها إبليس في طريقنا.
للصّيام قوّة للتغلّب على حيل الشّيطان وإن أُتقنها، وتزامن الصّيام مع الصّلوات في الموسم المبارك، تأكيد لاشتراك الإنسان بكلّيّته في مسيرة الجهاد، كما تضع الصّلوات أمامنا العبر المستقاة من خبرة آباء الكنيسة، وسيرهم وتعاليمهم ليكونوا لنا القدوة والمثال، في مسارنا نحو الملكوت، نحو يسوع المسيح الّذي هو هدف كلّ مؤمن.
يقول الأب ليف جيليه: إنّ الصّوم هو زمان تربية روحيّة واستنارة، أي إنّه عودة إلى الله وإلى نعيمه. ألم يخسر آدم فردوس نعيم الله بظلمة الكبرياء والعصيان؟ أَلَا يعود إليه بالتّواضع والالتزام بمشيئة الله؟ الخروج من الفردوس لم يكن أبديًّا لأنّ باب الرّجوع دائمًا مفتوح.
صوم مبارك ومسيرة عودة مباركة