نحن كمسيحيّين أغلى ما عندنا وأثمن ما نملك هو دم المسيح، هذا الدّم الّذي ارتضى هو أن يسفكه على الصّليب من أجل خلاصنا. فكيف لاتكون لنفوسنا بعد ذلك قيمة وكيف لاتكون أغلى من كلّ ما في العالم؟!!
الأحد بعد رفع الصّليب
"ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه"
في إحدى الكنائس في جنوب فرنسا صنع تمثال للامبراطور شارلمان، وهو جالس على كرسي رخامي، ويحمل فوق صدره الإنجيل، وهو مفتوح، وإحدى أصابع يده تشير إلى هذه الآية: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه".
وربّما السّؤال الّذي يتبادر إلى ذهننا هو لماذا أعطى السّيّد المسيح النّفس كلّ هذه الأهمّيّة؟ ولماذا جعل قيمتها أكبر من كلّ ما في العالم؟
الحقيقة أنّ هناك عدّة أسباب لذك:
1ـ إنّ نفس الإنسان مخلوقة على صورة الله ومثاله. فنحن نعرف أنّ الله عندما خلق الإنسان خلقه على صورته ومثاله وطالما أنّه ليس لله من جسد أو شكل، فالتّشابه معه إذا هو بالرّوح، والمثال والصّورة كامنان في روح الإنسان. لهذا نرى في الإنسان الكثير من صفات الألوهة مثل الحرّيّة ومعرفة الخير من الشّرّ والصّالح من الطّالح وهويتحسّس للجمال.
2- إنّ تعب وجهاد الإنسان على نفسه يوصلانه أن يقود نفسه من الموت إلى الحياة وهذا واضح في قول السّيّد "من عمل الصّالحات إنّما انتقل من الموت إلى الحياة"، هكذا فعناية الإنسان بنفسه تنقلها من حالة الولادة تحت آثار الخطيئة "بالخطايا ولدتني أمي"، إلى حالة مشابهة الله، أي إلى التّألّه والتّقدّس بواسطة نعمته، وتاليا إلى الخلود.
بينما مهما يتعب الإنسان على جسده، ويحاول العناية والاهتمام به، فإنّه لا محال سائر إلى الهلاك والفناء، حتّى مع ممارسة الرّياضة وإضافة المساحيق وعمليّات التّجميل. يمكن لهذه كلّها أن تعطي شيئا للجسد، ولكنّها لاتستطيع أن توقف سيره نحو الشّيخوخة والانحلال. لهذا فمقدار التّعب الّذي يصبّه الإنسان على جسده والوقت الّذي يضيّعه في الاعتناء به، لو يصرف ولو ربعه على نفسه لجنى منها فوائد عديدة، ولجعلها بفضائل متنوّعة تبقى معها إلى الأبد، وتكون بمثابة جواز سفر للعبور إلى الحياة الأبديّة.
3- وهناك سبب هام جدّا يعطي لنفس الإنسان قيمة عظيمة هي أنّ المسيح اشتراها. وماذا كان الثّمن الّذي دفعه من أجلها؟ دمه الغالي الثّمين. هذا ما يُعبّر عنه بولس الرّسول بقوله:
"لأنّكم اشتريتم بدم ثمين" فكيف نفرّط بشيء هذه قيمته. فنحن كمسيحيّين أغلى ما عندنا وأثمن ما نملك هو دم المسيح، هذا الدّم الّذي ارتضى هو أن يسفكه على الصّليب من أجل خلاصنا. فكيف لاتكون لنفوسنا بعد ذلك قيمة وكيف لاتكون أغلى من كلّ ما في العالم؟!!
هذه الأسباب تجعل الإنسان يفكر بنفسه وقيمتها كثيرًا، وبحقّها عليه وواجباته تجاهها. فماذا ينفعه لو ربح العالم كلّه و خسرها.
هذا نجده أيضا بالحياة العمليّة إذا تمعّنّا في النظر فيها. فلا يخفى على أحد أن عددا لا بأس به من المشاهير الّذين ربحوا العالم خسروا بالنّهاية نفوسهم.
فالبعض ربح العالم بالمال، والبعض الآخر بالمجد. البعض بالسلطة، والبعض بالشّهرة. البعض بالجنس، والبعض بالمخدّرات. امتلكوا كلّ ما في العالم وهي أمور نعتقد في سذاجتنا مرّات أنّنا إن امتلكناها أصبحنا سعداء. ولكنّ كلّ هذا لم يفدهم بشيء، ووصلوا إلى قناعة أنّه إذا كان هذا هو العالم فلا يستحق أن يبقى الإنسان فيه، فأنهوا حياتهم بالانتحار.
ربحوا العالم ولم ينتبهوا لأنفسهم فخسروها وخسروا معها كلّ شيء. وعلى العكس تجد راهبا بسيطا في منسكه لا يملك شيئا من العالم، وهو أسعد الناس، وأكثرهم قناعة بأنّه أغناهم لأنّه ربح نفسه. هذا ما دعا بولس الرّسول ليقول: "نحن فقراء ولكنّنا نغني كثيرين".
الكنيسة اليوم في أوّل أحد بعد عيد رفع الصّليب تنبّهنا إلى ضرورة الانتباه، لا إلى العالم ولا إلى ما فيه، بل إلى أبعد من ذلك، إلى الانتباه للعالم الآخر القادم عالم النّفس الباقية والحياة الأبديّة. فلننتبه لأنفسنا ولنحاول ربحها ولو خسرنا كلّ ما في العالم، لأنّه "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه".آميـن.
الأسقف ديمتري شربك
افتتاحية البشارة
الأحد 15/9/2024