الفصح الشّتـوي
5
المسيح وُلد فمجّدوه
تظهر أولى علامات الليتورجيا الميلاديّة مع عيد دخول السيّدة إلى الهيكل. ففي صلاة سَحَر ذلك اليوم (21 تشرين الثاني)، نباشر، ولأوّل مرّة، بترتيل قانون ميلاد المسيح (الكاطافاسيّات) (1):
<<المسيح وُلد فمجّدوه،
المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه،
المسيح على الأرض فارفعوه،
رتّلي للربّ أيّتها الأرض كلّها،
ويا شعوب سبّحوه بابتهاج،
لأنّه قد تمجّد>>.
<<لنصرخ نحو الابن المولود من الآب قبل الدهور بدون استحالة،
المسيح الإله الذي تجسّد في آخر الأزمنة،
من البتول بغير زرع هاتفين،
يا من رفع شأننا قدّوس أنت يا ربّ>>.
<<أيّها المسيح المُسَبَّح،
لقد خرج قضيب من أصل يسّى،
ومنه قد نبتّ زهرة من جبل مظلّل مدغل،
أيّها الإله المنزّه عن الهيولى،
فأتيت متجسّداً من البتول التي لم تعرف رجلاً،
فالمجد لقدرتك يا ربّ>>.
<<إنّني أشاهد سرّاً عجيباً مستغرَباً،
المغارة سماء والأرض عرشاً شيروبيميّاً
والمذود محلاً شريفاً،
الذي اتّكأ فيه المسيح الإله،
غير الموسوع في مكان،
فلنسبّحه معظّمين>>(2).
يتبع قانون الميلاد ذو الأوديات التسع التراتيل الكتابيّة (canticles) لموسى وحبقوق وأشعياء ويونان والفتية الثلاثة، نشيد تعظيم العذراء. وقد وضعه القدّيس غريغوريوس النزينزيّ، وهو المعروفف باللاهوتيّ، في القرن الرابع. كان القدّيس غريغوريوس صديقاً للقدّيس باسيليوس الكبير، ومدافعاً، بامتياز، عن ألوهيّة ابن الله وكلمته، وتالياً عن عقيدة الثالوث القدّوس. لا يُكرَّم القديس غريغوريوس فقط لأنّه لاهوتيّ عظيم وشاعر روحانيّ، إنّما لأنّه مبشّر ومعلّم عظيم للحياة المسيحيّة أيضاً. في ما يلي مقاطع من عظته التي ألقاها في ترانيم الميلاد في الاحتفال بفصح الشتاء:
<<المسيح وُلد فمجّدوه. المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه. المسيح على الأرض فارفعوه. رتّلي للربّ أيّتها الأرض كلّها>>. سأربط الاثنتين بكلمة واحدة: فلتفرح السموات، وتبتهج الأرض لأنّ الذي هو في السموات نزل الآن إلى الأرض. المسيح بالجسد فافرحوا برعدة وابتهاج. افرحوا برعدة بسبب خطاياكم. وبابتهاج بسبب رجائكم. المسيح ولد من عذراء، فعيشوا كعذارى. أيّتها الأمّهات كنّ أمّهات المسيح. من لا يسجد للذي هو منذ البد؟ من لا يمجّد الذي هو النهاية أيضاً؟
لقد مضى الظلام ثانية. وخُلق النور ثانية.... فليرَ الجالسون في الظلام ملء نور المعرفة العظيم. فقد مضت الأشياء القديمة. انظروا فقد أصبحت كلّ الأشياء جديدة. ذهب الحرف واختلّ الروح مكانه. وطُردت الظلال لأنّ الحقّ قد أتى عليها. ملكيصادق يتحقّق الآن. فالذي هو بدون أمّ (لأنّه مولود من الآب قبل الدهور) يصير الآن بدون أب (لأنّه مولود من عذراء). طبيعة الناموس غاضبة. فالعالم العلويّ يجب أن يملأ كلّ شيء. المسيح يوصي فلا ندَع أنفسنا تعانده.
صفّقوا بالأيدي أيّها البشر. لأنّه ولد لنا الابن، وأُعطي لنا ولد، ورئاسته على كتفيه... فليصرخ يوحنّا المعمدان عالياً: أعدّوا طريق الربّ! وأنا سأصرخ عالياً أيضاً عن قوّة هذا اليوم. فالذي هو بغير جسد يتجسّد. ابن الله يصير ابن الإنسان. يسوع المسيح: هو نفسه أمس واليوم وإلى الأبد! فليخزَ أولاد إسرائيل الذين يطلبون الآيات. فليتحدّث بحماقة اليونانيّون الذين يطلبون الحكمة(3). فليتكلّم الهراطقة حتّى يؤلمهم لسانهم. فسوف يؤمنون عندما يرونه صاعداً إلى السماء. وإن لم يؤمنوا ساعتها فسوف يؤمنون عندما يرونه آتياً من السموات ليُجري الدينونة.
لكن هذا ليس الآن. فلنتكلّم الآن على الاحتفال الذي ندعوه الميلاد والظهور. فالاسمان كلاهما يعودان إلى الأمر ذاته. لأنّ الله ظهر إنساناً في الميلاد. إنّه هو الكائن الأبديّ (إله من إله)، فوق كلّ سبب وكلمة، لأنّ كلمة الله قبل أيّة كلمة. وفي الوقت ذاته هو الآتي من أجل خلاصنا، لكي يعطينا كياننا، كياننا السليم، أو بالأحرى يستعيدنا بتجسّده بعدما سقطنا ببؤسنا من كياننا السليم. اسم الظهور الإلهيّ يُعطي للعيد بالإشارة إلى ظهوره الإلهيّ في المعموديّة. واسم الميلاد بالإشارة إلى ولادته بالجسد.
إذاً هذا هو احتفالنا الحاضر. إنّنا نحتفل اليوم: بمجيء الله إلى الإنسان، لتصير الصدارة لنا، أو بالأحرى (وهو التعبير الأفضل) لنعود إلى الله ، بنزعنا الإنسان العتيق ولبسنا الإنسان الجديد. وكما أنّنا متنا بآدم هكذا نحيا بالمسيح، نولد مع المسيح ونُصلب معه ونُدفن مع ونقوم معه....
لذا فلنحفظ العيد لا كما يحتفل الوثنيّون، بل بطريقة إلهيّة. لا بطريقة هذا العالم، بل على مثال العالم الذي من فوق. لا كشيء يخصّنا نحن، بل كشيء يخصّه هو (المسيح) الذي هو نحن، أو بالأحرى كمعلّمنا. لا بضعف، بل بشفاء. لا كخليقة، بل كخليقة مستعادة (جديدة).
وكيف يكون هذا؟ لا نزينّن مداخل بيوتنا، ولا نقم حلقات الرقص، ولا نجمّل الشوارع. لا نعيّدنّ بالعيون، ولا نطربنّ آذاننا بالموسيقى، ولا نعطرنّ أنوفنا بالعطور، ولا ندنسنّ الذوق، ولا نلذذنّ الملمس. هذه هي الطرائق التي تقود إلى الشيطان ومداخل الخطيئة... فلنترك هذه جميعها للوثنيّين... أمّا نحن العابدون كلمة الله، فيجب أن نترفّه بطرائق أخرى. فلنطلب كلمة الله في الناموس والقصص الكتابيّة، وبخاصّة تلك التي تخبرنا عن العيد الحاضر. وهكذا تكون أفراحنا على شبهه (المسيح) الذي دعانا كلّنا اليوم.
... لأنّ الذي يوزّع الغنى صار فقيراً، لأنّه لبس فقري الجسديّ لكي ألبس غنى ألوهيّته. هو الملء أفرغ ذاته، أفرغ ذاته من مجده، لفترة قصيرة، لكي أشارك أنا في ملئه. كم هو غنى صلاحه! ما هذا السرّ الذي حولي! كنت مشاركاً في الصورة الإلهيّة لكنّي لم أحفظ هذه الشركة. فهو يتّخذ جسدي الآن لينقذ الصورة ويجعل الجسد غير مائت. إنّه يشارك مناولة ثانية (التجسّد) أعجب من الأولى (الخلق). لأنّه في الخلق أعطانا أن نشارك في طبيعته الصالحة. والآن في الميلاد لبس هو طبيعتنا الخاطئة. الميلاد أكثر من فعل إلهيّ. إنّه يفوق عيون فهم كلّ البشر>>(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يُرتل قانون الميلاد في سهرانة عيد دخول السيّدة كقانون ثان في صلاة السَحَر. وقد جرت العادة أن نُرتل من بعد عيد الدخول في سَحَر كلّ عيد كبير وذلك حتّى حلول عيد الميلاد.
(2) خدمتا سَحَر عيدي دخول السيّدة والميلاد.
(3) انظر 1كو1: 22_23.
(4) غريغوريوس النيصصيّ، العظة 38، في الظهور أو ميلاد المسيح.