تأملات في الصوم الكبير المقدس
تأملات في الصوم الكبير المقدس
توطئة روحية
“وإذا صمنا يا إخوة جسدياً فلنصم أيضاً روحياً ولنحل وثاقات الظلم ونفك عقد المعاملات القسرية، ونمزق الصكوك الجائرة، ونمنح الجياع خبزاً، ونولج مساكين لاسقف لهم الى منازلنا لكي ننال من المسيح الاله الرحمة العظمى”
( استشيرة الأربعاء من الأسبوع الأول من الصوم الكبير المقدس)
الصوم الكبير مرحلة التوبة
ايقونة الدينونة
اننا نقترب رويداً من أيام الصوم الكبير التي هي ايام التوبة والمصالحة مع الله، والتوبة بدء حياة مسيحية صادقة.
لقد بدأ الهنا وربنا يسوع المسيح كرازته داعياً البشر الى التوبة:” من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات”(متى ص4-17).
لكن ماهي التوبة؟
في زحمة حياتنا اليومية نلاقي صعوبة لنفكر بها، ولا نجد متسعاً من الوقت لكي ننصرف اليها ونأخذها بعين الاعتبار معتقدين أن ذهابنا الى الكاهن للاعتراف وحلنا من الخطيئة يكفيان لارضاء ضميرنا المسيحي ونكرر هذا العمل مرة أو أكثر في كل عام.
الحقيقة أن ثمة سبباً دفع الكنيسة الى ترتيب هذا الصوم المقدس، أنه أوان التوبة
الكتاب المقدس
إذن ماهي التوبة؟…هذا السؤال نطرحه بحرارة وتوق الى الله. فالصوم الأربعيني يعطينا الجواب الصحيح، فمرحلة الصوم هي مدرسة التوبة الحقة. والتجاوب مع فضائل هذا الصوم المقدسة إشباع لرغبات الروح التائقة باستمرار الى الله.
فعلى كل مسيحي ان يعيش هذه الفضائل ويحيا بتعاليمها وتوجيهاتها.
إن الصوم حج الى صميم الينابيع الروحية الأرثوذكسية الصافية واكتشاف للحياة الروحية الأرثوذكسية المثلى.
لأجل ذلك نحن مدعوون الى الاشتراك بحياة الكنيسة مهيئين أنفسنا لاستقبال الحدث الأعظم الذي هو القيامة المجيدة.
ونحن في هذا النشيد الموجز نختصر المعنى الأمثل للصوم المبارك، لنقوم بتضحيات تنسجم مع رسالتنا في الحياة معالجين المواضيع التالية:
1- مدة التهيئة للصوم
2- الحياة الطقسية اثناء الصوم
3- تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية عن الصوم والصلاة وسائر الرياضات الروحية التي يجب ان يقوم بها كل منا في هذا الموسم الروحي البهج والمبارك:
اولاً آحاد التهيئة للصوم
الفريسي والعشار
قبل دخولنا مباشرة في مرحلة الصوم الكبير نتهيأ لولوج فترة ندعوها بمرحلة التهيئة.
ولهذه المرحلة صفة خاصة من الحياة الطقسية الأرثوذكسية، فالكنيسة قبل كل حدث هام تتهيأ لاستقباله بما يليق تماماً مثلما هي الحال في الأعياد السيدية الكبرى كعيد الميلاد المجيد والظهور الالهي المبارك والقيامة المقدسة والصوم الكبير المبارك.
أما التهيئة للصوم الكبير فتتناول أربعة آحاد، وفي كل أحد تلفت الكنيسة نظرنا الى ناحية مهمة جداً من نواحي التوبة وهي فضيلة التواضع.
أحد الفريسي والعشار
في مساء السبت السابق لهذا الأحد مباشرة يبدو ثمة تغيير ما في حياتنا الطقسية باستخدامنا كتاب “التريودي” إضافة الى كتب طقسية أخرى.
كتاب التريودي يشددعلى موضوع التواضع ويعلمنا الفصل الانجيلي (لوقا ص18ع 10-14) الذي يُتلى في ذلك الأحد يعلمنا بوضوح بان فضيلة التواضع هي شرط أساسي واولي من شروط التوبة، فمثل الفريسي والعشار يصور لنا شخصاً مغروراً بنفسه يظن بأنه يعيش كل الوصايا ويطبقها تطبيقاً كاملاً والواقع انه متكبر متعجرف جعل الدين وصايا خارجية شكلية وحسب، أما العشار فاعترف بعمق وبانسحاق قلب، وبمنتهى التواضع والصراحة فقبله الله وبرره بسبب تواضعه الحق، وبالتالي بتوبتهالصادقة ولذا فننشد في هذا اليوم هذه الترنيمة:
” لنهربن من كلام الفريسي المتشامخ ونتعلم بالتنهدات تواضع العشار هاتفين الى المخلص اغفر لنا ايها الحسن المصالحة وحدك.”
أحد الابن الشاطر
وهو يعني الرجوع الى الله.
عودة الابن الضال
الفصل الانجيلي الذي نقرؤه في هذا الأحد (لوقا:15 ع11-32) يطرح أمامنا وجهاً خاصاً من وجوه التوبة أعني فضيلة الرجوع الى الله.
إنه لايكفينا أن نعترف بخطايانا وحسب، فالتوبة في هذه الالة تكون عديمة الجدوى لا ثمر لها اطلاقاً بل ينبغي أن نصمم بأن تغييراً معيناً يجب أن يطرأ على حياتنا، وفي هذه الارادة الصادقة والعزم الشديد نؤكد رجوعنا الى الله ونخضع له ونسلم لارادته تسليماً كلياً.
إننا إذ ذاك نتجه اتجاه تنقية وتقديس ينموان باستمرار في نفوسنا ونعترف بايمان باننا في حياتنا اليومية ومشاكلنا المتشابكة الكثيرة وقضايانا المتعددة ننحرف عن جادة الكمال الروحي والنقاوة النفيسة.
إذن علينا ان نعيدها سالمة نقية ساعة ندخل ملكوت الله ونتقدس بالماء والروح، وبما أن خطايانا اليومية تبعدنا عن وجه الرب، فيجب ان نتوق بشوق الى الرجوع اليه تماماً مثلما عاد الابن الشاطر الى ابيه نادماًمستغفراً ضارعاً بايمان ومحبة وتوبة حقة قائلين:
” لما عصيت مجدك البوي بجهل وغباوة وبددت في المساوىء الغنى الذي أعطيتني ايها الأب الرؤوف لأجل هذا أصرخ اليك بصوت الابن الشاطر هاتفاً أخطأت قدامك فاقبلني تائباً كأحد أجرائك.” (القنداق اليومي)
أحد مرفع اللحم
يعني المحاكمة الأخيرة…
أحد الدينونة
في نهار السبت الذي يسبق احد مرفع اللحم تذكر الكنيسة المقدسة جميع ابنائها الأبرار الذين رقدوا بالرب على رجاء القيامة والحياة الأبديةن وهي بهذا العمل المجيد تؤكد انها وحة محبة بالمسيح: نتعاون ونأتلف ونتحد بمحبة تربطنا بالسيد له المجد، فتوبتنا تكون إذ ذاك كاملة، إذا قمنا بتذكار كل الاخوة الراقدين بالرب، وهذه الذكرانية تشأ من المحبة الصحية بالرب يسوع وتستمد عناصرها من فضيلة التوبة وما اروعها فضيلة تحي روح المحبة التي بها ” يعرف العالم انكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض”(يو:ص13ع35) اما الفصل الانجيلي الذي يتلى في أحد مرفع اللحم (متى ص25ع31-46) فيذكرنا بعنصر التوبة الثالث وهو التهيئة ليوم الرب العظيم الذي هو يوم الدينونةن وهذا يني اننا يجب ان نكون في يقظة دائمة فنقيس أعمالنا وأفعالنا اليومية على قياس انجيل الرب يسوع في أخينا الانسان ” لأنكم مهما فعلتم بأخوتي الصغار فبي فعلتموه.”
أحد مرفع الجبن
وهو فضيلة الغفران
أحد مرفع الجبن
في يوم السبت المتصل بهذا الأحد تعيد الكنيسة المقدسة لجميع الأبرار الذين لمعوا في الأصوام والزهد بغية اتخاذهم لنا قدوة نقتدي بهم لنجتاز أوان الصيام بصبر وجلد وقداسة.
أما يوم الأحد هذا بالذات، فهو اليوم الأخير من ايام التهيئة ومنه ننطلق للدخول في ايام الصوم، وللكنيسة فيه صلوات تشدد على ثلاث نواحي هامة:
1- طرد آدم من الفردوس، ومنه نفهم ان الانسان خلق لكي يحيا في الفردوس ويشترك بالعيشة الالهية، ولكنه وبسبب المعصية، أُبعد من هذه الحياة القدوسة واستوطن ارضاً تنبت شوكاً وحسكاً، وبمجيء السيد له المجد وتجسده من العذراء القديسة أُعيدت اكانية الرجوع الى تلك الحياة دائمة الغبطة.
2- يجب الا يكون صومنا تظاهراً ومراءاة وحباً للظهور بل ينبغي أن تلزمه رغبة في تنقية نفوسنا، ونبدو كأننا مبتهجين مغتبطين بانجاز هذه الفضيلة، فالسيد له المجديقول:”متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فانهم يغيرون وجودهم”(متى ص6ع16).
اذن فالشرط الأساس ليكون صومنا مقبولاً عند الله غفران آثامنا ومحو خطايانا. وفي مساء هذا الأحد تبدأ الكنيسة المقدسة سيرها الى اليوم العظيم يوم القيامة المقدسة.
تأمل
3- الحياة الطقسية الأرثوذكسية في مدة الصوم الكبير: إن أيام الصوم اربعون يوماً تبدأ يوم الاثنين الذي يلي أحد مرفع الجبن وتنتهي نهار الجمعة قبل سبت إقامة الرب يسوع لعازر من بين الأموات، لأن سبت لعازر مع أحد الشعانين واسبوع الآلام تؤلف وحدة طقسية مستقلة عن الصوم الكبير، وأما روح الصوم المبارك فتأخذ شكلها كاملاً في راسيم وخدمات وصلوات الصوم نفسه، فالكنيسة بأجمعها نصلي بحرارة وصلاة التوبة والرجوع الى الله، وهذه الخدم والصلوات تفسح لنا آفاق المدارس والمعارف وتوسيع اختباراتنا الروحية الى أقصى الحدود، بصلوات عديدة منها:
1- قانون القديس اندراوس الدمشقي المعروف بالكريتي (اسقف كريت)
يبتدىء الصوم المبارك بتلاوة قانون هذا القديس الكبير الذي كتبه في القرن السابع المسيحي، والذي يفسر لنا تفسيراً واضحاً معنى التوبة وهدفها، فالمؤلف يتأمل تاريخ السقوط ثم الخلاص، فيرى في نفسه التاريخ بمجمله ويرى في سقطاته وضعفه سقطات البشرية جمعاء وضعفها، انه يرى بأن الله هو اله محبة ورحمة وتضحية، يدعو الانسان الى الخلاص باستمرار، بيد ان الانسان قلما يستجيب لهذا النداء بسرعة ” ايها المسيح من أين ابأ النواح على أفعالي، انا الشقي وأي بدء أضعه للمناحة الحاضرة…. لكن بما أنك متحنن، هبني صفح الزلات” ثم يقول: “ايها الفاخوري لقد جبلتني من الطين حيواناً وضعت فيّ عظاماً ونسمة حياة، لكن ياخالقي ومنقذي وحاكمي اقبلني تائباً” ثم ” لقد أضعت بهائي المصنوع قديماً مع جمال الخلق وها أنا الآن ملقى مجرد خازٍ”.
2- صلاة القديس أفرام السوري
” ايها الرب سيد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول وحب الرئاسة والكلام البطال.
وأنعم علي أنا عبدك الخاطىء بروح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة.
نعم يا ملكي والهي هبني أن أعرف زلاتي ولا أدين اخوتي فإنك مبارك الى دهر الداهرين آمين”.
ان هذه الصلاة تتكرر كثيراً اثناء خدم الصوم المباركة، وانها تعبر ببساطة متناهية ونقاوة فائقة عن روح التوبة الحقة وتدعونا الى ممارسة فضائل المحبة والتواضع والتوبة، مثلما تدفعنا بشوق للتنقية والرغبة بتحسين الحياة الروحية، لنقيم علاقاتنا بعضنا مع بعض على دعائم المحبة والتضحية المتبادلة.
3- قراءات من العهد القديم
من خصائص صلوات الصوم الكبير المقدس العودة الى قراءة كتاب العهد القديم، ففي فصول كتاب التكوين والأمثال وسفر أشعياء النبي اشارات واضحة وصريحة الى الوعد الالهي لخلاص الانسان نقرؤها لتذكرنا بعصر التهيئة لمجيء ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وابتداء تاريخ الخلاص، أما كتاب الأمثال فيعلمنا عن حكمة الله، ثم يحدثنا سفر أشعياء عن الفداء والخلاص ويبشرنا بملكوت الله.
4- كتاب التريودي
الصوم والصلاة
التريودي هو كتاب الصلوات اثناء الصوم الكبير، نضيفه الى جانب قراءات المزامير والنبؤات، يشتمل علىرائع الصلوات، وعمق تعبيرها حسياً عن فترة الصوم، وعن جمالها الروحي،ولنقرأهذه القطعة الخشوعية الرائعة:
” لنبتدىء ايها الشعوب بالصوم النقي، الذي هو خلاص النفوس، ونخدم الرب بخوف، ونطيب رؤوسنا بزيت الاحسان ونرحض وجوهنا بماء الطهارة. ولا نكثر الكلام في الصلاة لكن كما تلمنا كذلك فلنهتف يا ابانا الذي في السموات اغفر لنا آثامنا بما انك محب للبشر.” (من سحر الثلاثاء من الأسبوع الأول)
ووهذه الأنشودة الروحية الرائعة المعبرة عن سمو الروحانية:” هلم ايها المؤمنون لنعمل في أعمال الله ونسلك في شكل حسن كأننا في نهار، مقتلعين من نفوسنا كل صك جائر نحو الغريب، ولا نضع له عثرة شكن ولنغادر ملاذ الجسد وننمِ مواهب النفس ونمنح المحتاجين خبزاً ونتقدم الى المسيح بتوبة هاتفين يا الهنا ارحمنا.” (من صلاة المساء نهار الجمعة من الأسبوع الأول). ثم…”إذا بلغنا نصف الصيام المؤدي الى خشبة صليبك الكريم”
وعلى هذا النحو يسير بنا الكتاب من أول يوم الى آخر مرحلة الصوم، إنه ليساعدنا مساعدة كلية في تأملاتنا وخلواتنا ويقدم لنا اختبارات روحية عميقة لآباء ونساك عظام.