كلمة الراعي: التقدمة والبخور في العلاقة مع الله




 

الإخوة والأبناء الأحباء،

يظن الكثيرون أن ما نقوم به في الكنيسة مأخوذ عن العبادات الوثنيّة واليهوديّة. هذا القول من ناحية العبادات الوثنيّة مجرّدة لأنها وثنية غير صحيح، لأن الرسول بولص يقول أن الأوثان في ذهن أتباعها، وليست حقيقية فما يقدم لها يقدَّم عبثاً بلا فائدة.

أما من ناحية العبادة اليهوديّة فالاختلاف في الفاعلية والمعنى كما حدث مع كثير من الأشياء العبادية. وكمثال الذبائح والنذور في العهد القديم كان للذبائح فاعلية الإستعطاف لغفران الخطايا. أما في المسيحيّة فقد بقيت النذور لله ليس كتقدمات ليتورجيَّة، بل كتقدمة محبّة أوصى بها الله، ومقبولة منه إذا كان مقدِّمها ذا نيّة سليمة ومُحِبة. نحن نعرف أن لا مغفرة للخطايا إلا برضى الله ورحمته، والذبيحة الوحيدة الفاعلة لهذا الأمر، هي ذبيحة ربنا يسوع المسيح الذي قدّم ذاته على الصليب، والذي منه كل مراتب الخدمة الكهنوتية أسقفيّة، أو القسس، أو الشمامسة، وما يدخل في هذه الطغمات. إذاَ ذبيحة واحدة لمغفرة الخطايا، ذبيحة الفداء الخلاصي. ونعلم أننا بعد ذبيحة الصليب لو قدمنا كل أغنام وأبقار وحيوانات العالم ما غفرت خطيئة واحدة لأن به وحده الخلاص، فالتقدمة والنذور إذاً هو إعلان عن محبّة، وطاعة لما قاله السيّد، وأوصى به على أفواه أنبيائه القديّسين، وقال: "حسنة واحدة تغفر جماً من الخطايا". وهكذا الإنسان لأنه يسمع الكلمة الإلهيّة ويطيعها يقدّم من ماله ذبائح ونذور لإطعام الفقراء، ومشاركتهم بأتعاب الإنسان المقتدر المحب. لأن السيّد قال: "من سقى أحد إخوتي هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم نبي، أجر نبي يأخذ، ومن سقى باسم صديق، أجر صديق يأخذ، ولكن ما هو الأساس والمنطلق، نقوم بذلك كرامة ومحبة بمن قال: "كنت جائعاً فاطعمتموني، عرياناً فكسوتموني، عطشاناً فسقيتموني...". هذا ما يبرر استمرار تقدمة النذور والذبائح، وغير ذلك لا مكان له في إيماننا.

أما من جهة تقدمة البخور. إننا نقدّمه لعدّة أسباب. أولاً البخور غالٍ، وخاصة إذا كان من أجود الأنواع، وفي الكنائس يقدَّم البخور من أجود الأنواع. تعبيراً عن المكانة التي لله في نفوس المؤمنين، فيقدمون له افضل ما يمكنهم وأغلاه، وليس كيفما كان. كما يحدث كثيراً في التقدمات إذ نسمع في بعض الأحيان يقدّمون للقناديل الموقدة أمام الأيقونات المقدَّسة، وعلى المائدة المقدسة، والمذبح، ورفاة القديسين من الزيت الذي ليس هو أجود أنواع الزيت الذي يملكه الشخص، لأن الأنانية تلعب دورها (حنانيا وسفيرة)، أو التفكير في العبادة يشوبه التقصير. نعم نحن نصلي ونقدّم لله، ولكننا لا نعرف كيف نصلي، ولنا الإيمان القاطع أن الروح القدس يأخذ صلواتنا الى الله الآب، ويتشفع فينا بأنّات لا توصف كما يقول الرسول بولص في رسالته الى أهل رومية. فكل تقدمة لا تحتل مرتبة الأفضلية في ممتلكات الإنسان، ناقصة، ولكن لنا الإيمان أن الله قد لا يرفضها إذا قدّمت بعدم معرفة، أو بطيبة قلب.

هكذا إذاً بتقديمنا في الكنائس نعبِّرُ أولاً عن محبتنا الخالصة لله، والذي لأجل محبته ندفع كلَّ غالٍ وثمين.

ثانياً نحن كمؤمنين نسارع بالقيام بكل ما يرضي الله. فإذا كان سبحانه وتعالى قد ارتضى وسرّ عندما تنسم رائحة الذبائح المقدّمة من نوح وأبنائه. فلماذا لا نسارع نحن لاكتساب رضاه إذا كانت هذه التقدمة، تقدمة البخور، تسرُّه، وبقبولها يعلن رضاه عن مقدِّمها. نقدّمها في المسيحيَّة ليس كذبيحة، ولكن كعلامة من العلامات الحسيّة الدالة على محبّتنا لله. كثيراً ما نسمع في الرعايا أن فلاناً قد قدَّم بخوراً لوجه الله، ولهذا كثيراً ما كان يوضع على شراريف السطوح، أو أمام البيت دلالة على أن "المجد لله في العلا" فهل الله يسكن الأعالي، أو في مكانٍ ما، إنه مالئ الكل، ولا يخلو مكان من وجوده، ولكن الصورة المبنيّة في أذهان الناس أنه السامي، والعالي، فنبخرُ لوجهه.

ونقدّم البخور طاعة لأوامره فهو الذي شبّه الصلاة بالبخور المتصاعد: "لتستقم صلاتي كالبخور أمامك، وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائيّة" أليست هذه الكلمات موحات بالروح القدس، وهل يشبّه الروح القدس ما هو سامي بأمر أو أشياء منكرة، لأن الله أيضاً أمر موسى بأن يقيم له مذبح البخور من ذهب. وقال في مكان آخر "لأنه من مشرق الشمس الى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يقرّب لإسمي بخور، وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود" (ملا11:1).

في أيام ربنا يسوع المسيح، كان يذهب الى الهيكل، ويشارك في العبادة، وهو القائل: "إنما أتيت لأتمم كلّ برّ". فلو كانت معموديّة يوحنا في ذلك الوقت هي البرّ كلهُ لما قال ليوحنا إنما أتيت لأتمم كلّ بر، بل لقال إنما أتيت لأتمم المعمودية. ولم يرد عنه أنه هاجم ما يجري في الهيكل، بل كان يهاجم الفساد، والفاسدين، والإستغلاليين في الهيكل، وللعبادة، وقد أكّد على صدق  ما ورد في الكتاب المقدَّس لأنه كان يستخدمه في عظاته، وتعليمه فلم ينقض قول الله لموسى "وقال الرب لموسى خذ لك عطوراً مَيْعَةً وأظفاراً وقنَّة عطرة ولباناً نقياً تكون أجزاء متساوية فتصنعها بخوراً عطراً صنعة العطار مملحاً نقياً مقدساً، وتسحق منه ناعماً، وتجعل منه قدام الشهادة في خيمة الإجتماع حيث أجتمع بك. قدس أقداس يكون عندكم. والبخور الذي تصنعه على مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم. يكون عندك مقدساً للرب كل من صنع مثله ليَشُمَّهُ يُقطَعُ من شعبه" (خر34:30-38). إذاً يصنع مثله لماذا؟ بكل تأكيد لا ليشمَّه بل ليقدمه لله".

جاء في كتاب أعمال الرسل أن التلاميذ كانوا يتشاركون مع اليهود في العبادة، ويميّزهم عن اليهود الصلاة المقامة يوم الأحد لكسر الخبز، ومائدة المحبّة. ولم نسمع بأيّة كلمة من الرسل عن رفض تقدمة البخور مع أن مذبح البخور كان موجوداً في أيام ربنا يسوع المسيح، وأيامهم. 

ذكر أحدهم أن السحرة والمشعوذين هم أكثر من يقدّم البخور. هذا صحيح الى حدّ ما. ولكن أما كان أيام موسى سحرة ومشعوذون، أما كان عندما نصبت خيمة الشهادة، وأقيم مذبح البخور، سحرة ومشعوذون. أنوقف الصلاة لله لأن الوثنيين يصلّون. أم نجعله حقيقية للإله الحقيقي وحده.

إن الحبيب يوحنا اللاهوتي يقرّ بأنه رأى البخور في السماء مع صلوات القديسين: "وقف عند المذبح، ومعه مبخرة من ذهب، وأعطي بخوراً كثيراً لكي يقدِّمه مع صلوات القديسين جميعهم" (رؤ3:8). 

فالكنيسة لم تبقِ على المعاني كما كانت في اليهوديّة، بل أعطتها مفهوماً مسيحياً. بالمسيح بقيت الذبيحة مقامة، ولكن أي ذبيحة، ذبيحة الصليب. وبقي الكهنوت، ولكن أي كهنوت بكل تأكيد ليس كهنوت لاوي، بل كهنوت ربنا يسوع المسيح الذي منه كل رتبة كهنوتية، وسلطان في الكنيسة. ولا ذبيحة إلا ذبيحة الصليب.

فلنقدّم له كل محبتنا بكل الطرق، والإمكانيات الممكنة، فالإنسان يدرك المحبّة لله بحواسه، وبها نقية يدرك وجود الله، وحضوره.

إن المادّيات في العبادة تؤثر في الحواس، والحواس أبواب النفس، وتساعد النفس على الإرتقاء الى أن يصبح الإنسان في المراقي العليا من القداسة فلا يعود بحاجة إلا لدم وجسد ربنا يسوع المسيح، ولكنه يبقى رافعاً التضرعات والبخور لله علامة شكر وامتنان للع على مواهبه العظيمة.

إذاً عبِّروا أيها الإخوة والأبناء الأحباء بكل الطرق، والإمكانيات الروحيّة والماديّة عن محبّتكم لله، ومجدوه، وبكل تأكيد سيتنسم محبّتكم له، نسائم رضى وسرور.         

                  +المتروبوليت باسيليوس منصور

                          مطران عكار وتوابعها

06-Nov-2020