سيرة القدّيسين نقولا وحبيب الدمشقيين


المجمع الأنطاكيّ المقدّس، المنعقد في 19 تشرين الأوّل 2023 في البلمند، أعلن قداسة الأبوين الشّهيدين نقولا وحبيب الدّمشقيين، وثبّت تذكارهما السّنويّ الجامع في ١٦ تموز من كلّ عام



 إذاعة السّلام تقدّم

سيرة القدّيسين الأبوين الكاهنين الشّهيدين

نقولا وحبيب خشّة

 

المجمع الأنطاكيّ المقدّس، المنعقد في 19 تشرين الأوّل 2023 في البلمند، أعلن قداسة الأبوين الشّهيدين نقولا وحبيب خشّة، وثبّت تذكارهما السّنويّ الجامع في ١٦ تموز من كلّ عام.

الشّهيد في الكهنة نقولا خشّة

ولد في دمشق في 31 آب 1856. درس في مدارس الشّام، وتعاطى تجارة الحرير.

قصد مصر لمتباعة أعماله التّجارية، وقضى فيها ثمانية أشهر، وبعد رجوعه إلى دمشق سيم شمّاسا في 25 آذار عام 1900، وكاهنا في 3 حزيران من نفس السّنة.

كان عضوا في جمعيّة القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ الأرثوذكسيّة في دمشق، وأصبح رئيسها الفعّال وإمامها المقدام، مدبّرا شؤونها واعظا في اجتماعاتها، مهتما بمكتبتها، شغوقا بمدرستها المجّانيّة. ( كما كتب سيرافيم كساب-القاهرة) وعاش مع رعيّته في دمشق يخدمها بكلّ ما أوتي من قوّة ونعمة.

كانت له اليد الطّولى في إنقاذ الكرسيّ الأنطاكيّ من السّلطة الغربيّة، فقاسى في سبيل ذلك السّجن والاضطهاد وتعطيل مصالحه وأعماله. ظفر بمراده، وسيم أوّل بطريرك سوريّ وهو المثلّث الرّحمات ملاتيوس دوماني.

(وعلى رأي كسّاب) كان تقيّا غير متعصّب، سبّاقا إلى المكرمات، خطيبا متدفّق اللّسان، ظريف العشرة، بشوش الوجه، ولكنّه كان عصبيّ المزاج لا يحتمل إساءة المسيء ولا ذبذبة المتلوّن، فكان يقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت. وكان وكيل البطريك ملاتيوس وموفده إلى الأبرشيّات لحلّ مشاكلها. وهو الخطيب المفوّه، فما زال النّاس يتحدّثون عن عظاته المرتجلة في الكاتدرائيّة المريميّة.

عام 1908 أوفده البطريك غريغوريوس الرّابع وكيلا بطريركيّا على كيليكيا. وفي مرسين شمّر عن ساعده وساعد الفعلة بنفسه في إصلاح بناء الكنيسة السّوريّة للرّوم الأرثوذكس، وبنى مقبرة، وباشر بإصلاح الأوقاف، وأنشأ مدرسة للصّبيان ومدرسة للبنات، من جميع الطّوائف محبّة بالعلم، وقد خصص من وقته ساعتين يوميّا لتعليم الدّيانة المسيحيّة والحساب في المدرستين، وكان يفسّر للتّلاميذ فصولا من الإنجيل. (المعلم حنّا ياسمين – مرسين)

أسّس الأب نقولا في مرسين جمعيّة زهرة العفاف للسّيّدات، التّي جعلت المدرسة الوطنيّة للبنات الّتي أسسها، تضاهي، مع مدرسة الصّبيان أحسن مدارس الأجانب. كان أبا حنونا للفقير وأخا مخلصا للغنيّ يرشده إلى عمل الدّراية، ويذكّره بأخيه البائس.

أثناء مذبحة أضنة 1909، حيث قتل العثمانيّون 30 ألف بريء، كان يطوف في اللّيل ويهدّئ روع النّاس، ويقدّم لهم التّعزيّة، وقد ساعد متصرّف مرسين مساعدة كبيرة، وكان يحسن للجميع لا فرق عنده بين ملّة وأخرى، وكم من عائلة خلّصها من أنياب الفقر.

كان يهتمّ بتلاميذه، يشجّع مواهبهم الأدبيّة والثّقافيّة. وكان المحامي عن الشّباب من اعتداء الحكومة، وكان يواجه السّلطات بجرأة، ومرّات عديدة حمى الشّباب في منزله متحمّلا مسؤوليّة كبرى.

الخوري نقولا مثال الكاهن الأرثوذكسيّ، لم يثنه عن عزمه لا ألم ولا جوع ولا سياط ولا قلع أظافر، ولا أساليب تعذيب متنوّعة. أشبعه المعذّبون الأتراك ضربا وتهشيما حتّى حطّموا جمجمته فلاقى حتفه شهيدا للمسيح عام 1916 وأثناء تعذيبه كان عزاؤه أنّه يتلو فصولا من الكتاب المقدّس. 

في كانون الثّاني عام 1919، أقيم في الكاتدرائيّة السّوريّة الأرثوذكسيّة في بروكلين قداس مهيب لراحة نفس القدّيس الخوري نقولا خشة. واعتبره المؤبّن أحد الشّهداء، في سبيل الوطن والدّين، كرجال الكنيسة في الزّمن القديم، الّذين واجهوا الاضطهادات.

قال عنه البطريرك غريغوريوس الرّابع، في17 تشرين الثّاني 1918عام : "تمسّك بالأمانة، واستودع نفسه بيد خالقه، متيقّنا أنّه ينال إكليل الحياة في مجد القدّيسين الأبديّ"  (في رسالة تعزية إلى عائلته في مصر)

قال فيه المطران باسيليوس دبس مطران عكّار: "قد سلّم بحياته احتفاظا على حياة كثيرين من رعيّته، من شرّ أولئك الظّالمين البغاة قاتلي الأبرياء"

وكتبت روزا اسكندر من مصر: "أسلمتم تلك الرّوح المقدّسة صامتين، ولكنّ أدعيتكم تنطلق من أعماق صدركم، لكلّ من أبنائكم ومحبّيكم، ولعائلتكم العزيزة، الّتي فارقتموها ليلا، صاغرين لأحكام الاستبداد باغتيالكم واختطافكم من أحضانها".

 

الشّهيد في الكهنة حبيب خشّة

16 تمّوز 1948

هو ابن الشّهيد في الكهنة نقولا خشّة، ولد في دمشق عام 1894، وهو البكر بين ثمانية أولاد. درس الابتدائيّة والثّانويّة في عينطورة، وتخرّج من  الجامعة الأميريكيّة في بيروت عام 1914 حائزا على بكالوريوس في الآداب.

قبيل الحرب العالميّة الأولى انتقل مع النازحين، من دمشق إلى مرسين حيث خدم والده. بعد استشهاد والده عام 1916 نزحت العائلة إلى بور سعيد، حيث تزوج حبيب من السوريّة وديعة توما عام 1922.

كانت وديعة امرأة تقيّة، محبّة للخير، وكان الكتاب المقدس رفيقها وكذلك كتاب الصّلوات. وإذ عارضت في البداية دخول زوجها سلك الكهنوت، لحرصها على الوضع المعيشيّ للأسرة، قبلت لاحقا برضى وتسليم. رغم أنّ وضعهم المعيشيّ قد تراجع بعد السّيامة الكهنوتيّة.

عمل حبيب في بورسعيد محاسبا ومترجما في شركة للشّحن والتّصدير، ورزق بطفلته جورجيت. عام 1924 انتقل ليعمل في بيروت واستمر موظفا حتّى عام 1931 وزرق في هذه الفترة بثلاثة أطفال: مارسيل، فدوى، ونقولا.

انتقل إلى دمشق بعد استقالته مزمعا دخول سلك الكهنوت، ولكنّ معارضة زوجته أجلّت الموضوع عاما إلى أن لانت. سيم كاهنا في الكاتدرائيّة المريميّة في دمشق حيث خدم ككاهن (1932- 1935). ورزق بابنه سليم.

عام 1935 توفّي ابنه نقولا إثر مرض مفاجئ وهو في عامه الخامس. تنقّل في خدمته بين دمشق ومصر. عام 1943 استقرّ في رعيّته في دمشق.

كان الأب حبيب سويّا في حياته البيتية، يخرج مع عائلته ويتنزّه، يمازح الجميع. لم يسع البتّة إلى فرض الأصوام والصّلوات على أحد. وكان يعيش حياة زهد وصلاة وصوم. كان يهمّه أن يسلك في خطى أبيه، وكثيرا ما صلّى أن تعطى له نعمة الشّهادة على غراره.

يوميّاته كانت بين الكنيسة والقدّاس وتفقّد النّاس والقراءة. وفي عطلة آخر الأسبوع كان يقصد دير القدّيسة تقلا في معلولا حيث يقضي وقته مختليا وقارئا، وكان يقصد قبرها  للتأمّل والصّلاة.

كان يقرأ الأشخاص، الّذين يقصدونه بهدف الإرشاد، وكأنّ كلّا منهم كتاب مفتوح أمامه.

أحبّ الآثار القديمة، والأديان، وغار على رعيّته غيرة المسيح، وقد اشتهر بين رعيّته بثلاثة أمور: الصلاة، الوعظ، والعناية بالفقراء.

وهناك شهادات عديدة بتجلّيه أثناء الصّلاة وارتفاعه عن الأرض، ومعجزات أخرى.

عظاته كانت بسيطة مختصرة، وبليغة، تخرج من كل كيانه. من كلماته: الرّهبان هم الأسلاك الّتي تربطنا بالسّماء.

أمّا الفقراء فقد كانوا أصدقاءه حقّا، وكان يعرف بأنّه أبو المبرّات، يعمل بالخفاء، وبأنّه سخيّ وكريم جدّا، ويعطي كلّ ما يملك. ومرّة، لحلّ مشكلة، عرض بتجرّد أن يدفع كامل راتبه، وكان يبلغ 150 ليرة عام 1847. لكلّ ذلك كان النّاس يعطونه واثقين أنّ معونتهم تذهب إلى مستحقّيها.

عندما لاحظ أخوته وأقاربه الّذين يساعدونه أنّ بيته صار يمرّ بحالة ضيق، نتيجة صرفه كلّ ما لديه، صاروا يزوّدون البيت باحتياجاته، بدل أن يعطوه المال من أجل ذلك.

كلّ هذه الأمور جلبت له المشاكل، والغيرة، حتّى من بعض الكهنة.

مرّة التقاه البطريك في دمشق، وكان الأب حبيب يرتدي جبّة جديدة، فقال له: ما هذه الجبّة الأنيقة! فاجاب الأب: أخي يوسف بعثها لي من مصر.

-       ماذا فعلت بجبّتك العتيقة؟

-       تركتها في البيت

-       حسنا سوف أرسل إليك خوري حوران فأعطه إيّاها.

-       كما تريد يا سيّدنا

        ولمّا حضر خوري حوران أعطاه الجبّة، ولكن لا جبّته العتيقة، بل أعطاه الجديدة.

 

        ويحكى الكثير عن عطاءاته، فمرّة أعطى طبخة "المحشي ملفوق" كما هي من مطبخ منزله لامرأة محتاجة. ومرّة مشى طويلا في الشّمس لأنّه أعطى أجرة السّيارة لمتسوّل. ويروى أنّه كان يحمي الفتيات ويساعد في  تجهيز تزويجهنّ ليحافظن على إيمانهنّ، وغير ذلك الكثير.

كانت عيناه غائرتين في وجه نحيل ولكنّه مشعّ. وكانت المحبّة تفيض بحضوره، وبركة يديه رفيقة تطوافه على شعب الله ومساكين الأرض.

عام 1984، كان برحلة علميّة ورياضة روحيّة، في جبل الشّيخ،  حيث توجد آثار رومانيّة ويونانيّة. ولما كان في منطقة حدوديّة  على الطّريق المؤديّة إلى قرية شبعا اللّبنانيّة، وقد اعتزل مرافقيه، يستظلّ صخرة في خلوة، مرّت به عصابة مهرّبين، فعذّبه أعضاؤها كونه كاهنا لله العليّ، وساقوه إلى واد سحيق، ضربوه وجرّحوه وعرّوه، ولم يعد قادرا على المشي، فجرّوه حتّى وصلوا به إلى الأراضي اللّبنانيّة، وبالغوا في تعذيبه ليجحد بالمسيح، ولمّا يئسوا منه صعدوا به إلى صخرة عالية وألقوه، فانكسر عموده الفقريّ، وبعد عذاب كبير أسلم الرّوح.

بعد اتّصال قوّة درك سوريّة بمخفر شبعا اللّبنانيّ، تشكّلت قوّة مشتركة، عثرت على جثّة الكاهن الشّهيد. ونقلت الجثّة إلى دمشق، وصلّى عليها غبطة البطريرك ألكسندروس، ورثاه مستهلّا كلامه بوصفه بالقدّيس، ودفن في مقام القدّيس جاورجيوس في المقبرة الأرثوذكسيّة شرقيّ سور دمشق.

 

الأب نقولا خشّة وابنه بالجسد الأب حبيب خشّة الدّمشقيين ختما سيرتيهما العطرتين بالاستشهاد حبًّا بالله.

اللّهم بصلواتهما ارحمنا وخلّصنا... آمين.

21-Oct-2023