الفصح الشّتويّ 40 -عيناي قد أبصرتا خلاصك


  لم نر المسيح بعيوننا البشريّة، ولا نراه بها الآن. لكنّنا نؤمن به ونحبّه ونفرح به فرحا جزيلا  لا  يوصف. رأيناه، بعيون روحنا، عندما ألهمنا الرّوح القدس. ونحتفل في الكنيسة كلّ عام بمجيئه في فصل الشّتاء. 



 

عندما حمل سمعان الشّيخ المسيح الطّفل على ساعديه، في اليوم الأربعين لميلاده، قال إنّه صار جاهزا للموت. صار باستطاعته الإنطلاق بسلام لأنّ عينيه قد أبصرتا المسيح الرّبّ، الخلاص الّذي أعدّه اللّه منذ تأسيس العالم قد كشف الآن في حضرة جميع النّاس. بحسب إنجيل لوقا، رتّل سمعان ترتيلة عندما حمل المسيح الطّفل على ساعديه وبارك اللّه أباه. وصارت هذه التّرنيمة جزء من اللّيتورجية الأرثوذكسيّة وترتّل في كلّ صلاة غروب. 

 

"الآن تطلق عبدك أيّها السّيّد بسلام

فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك

اّلذي أعددته لكلّ الشّعوب

نورا لاستعلان الأمم و مجدا لشعبك إسرائيل"

        (أنظر لو2: 29-32)

 

يردّد المسيحيّون في غروب كلّ يوم كلمات الشّيخ سمعان هذه، غروب اليوم في التقليد اللّيتورجي الأرثوذكسيّ هو دء اليوم الجديد (يقول الكتاب المقدّس: وكان مساء وكان صبا، يوم واحد"(تك5:1))، لأنّ كلّ الّذين التقوا بالرّبّ هم حاضرون للموت، لأنّ عيونهم قد أبصرت خلاص العالم.

لقد ألهم الرّوح القدس الشّيخ سمعان لكي يذهب إلى الهيكل و يلتقي يسوع الطّفل، وكان الرّوح القدس قد ألهمه قبلا أنّه لن يرى الموت قبل أن يرى المسيح اللّه. وأوحي إليه بأنّه سيميّزه عندما يراه. و سوف يخبر أنّه الماسيّا الّذي "وضع لسقوط و قيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة لا تقاوم... لتكشف أفكار من قلوب كثيرة" (لو2: 34-35). واوحي إليه بأن يتنبّأ بالآلام الّتي ستكابدها مريم، أمّه، عندما سيعلّق على الصّليب، مقدّما حياته من اجل حياة العالم. هكذا تفسّر الكنيسة كلماته المتعلّقة بالسّيف الّذي سيجوز قلب مريم. (لو2: 35).

أوحي إلى سمعان بالرّوح القدس بان يلتقي بيسوع المسيح، ليرى ويشهد. بالتّأكيد راى أمورا ما رىها، ولن يراها، غيره أبدا. لأنّه كان بارّا ينتظر تعزية إسرائيل، والرّوح القدس كان حالّا عليه" (لو2: 25). وماذا شاهد سمعان؟ رأى بالرّوح القدس، بالتّأكيد ما لا يستطاع التّعبير عنه بشريّا، وأكثر ممّا رأى كثيرون. لكن بالتّأكيد أقلّ ممّا نرى نحن الّذين نعيش في القرن الحادي والعشرين من الزّمن المسيحيّ.

نحن الّذين نعيش في كنيسة المسيح اليوم، قد رأينا يسوع الطّفل. لكنّنا قد رأينا المسيح الّذي ينمو أيضا. رأينا الرّبّ ليس كطفل صغير ذي أربعين يوما. بل تعلّمنا من بشارة الملاك للعذراء، وأعطينا بصيرة في ولادته العجيبة. لاحظنا ختانته في اليوم الثّامن، ودخوله إلى الهيكل، ولقاءه مع سمعان الشّيخ، وحنّة النّبيّة في اليوم الأربعين. وقفنا عند نهر الأردن، وشاهدنا لقاءه مع القدّيس يوحنا المعمدان. أصغينا إلى شهادة السّابق، صديق العريس، الّذي أرسل لكي يهيّء طريقه. وكنّا حاضرين، في المعموديّة، ظهوره في الأردن. سمعنا صوت الآب ورأينا الرّوح القدس نازلا ومستقرّا عليه، وماسحا إيّاه مسيحا للرّبّ، مسيح الله الّذي هو الرّبّ ذاته، الابن المحبوب لله. تبعناه إلى الصّحراء، عندما جرّب من إبليس. رأينا كلماته، ولاحظنا عجائبه، ووجهنا بسؤاله: من تقولين إنّي أنا؟ وأجبنا مع بطرس، وكلّ الرّسل: أنت المسيح، ابن الله الحيّ. ذهبنا معه إلى أوروشليم، أكلنا معه في العليّة، وتمتّعنا بوليمته السيّديّة، بعقول سامية. وقفنا بجانب الصّليب. ذهبنا إلى القبر. ورأيناه قائما ممجّدا. نفخ فينا الرّوح القدس، وأعطانا إيّاه. ألسنة النّار الّتي حلّت على الأرض، قد حلّت علينا. مسحنا بروحه القدّوس. وامتلأنا بقوّة من العلاء – الرّوح القدس ذاته الّذي حلّ على سمعان الشّيخ ليعرف أنّه لن يموت، قبل أن يرى المخلّص. هذا الرّوح الّذي قاده ذلك اليوم إلى الهيكل، وحرّكه ليرتّل التّرنيمة الّتي نرتّلها مساء كلّ يوم: الآن أطلق عبدك بسلام!

عيوننا رات حقّا خلاص الله. لأنّنا رأينا المسيح. وأكثر، رأينا الّذين رأوا المسيح. رأينا سمعان وحنّة، ومعهما مريم العذراء ويوسف الصّدّيق، رأينا السّابق يوحنّا، مع كلّ الرسل. رأينا خلفاءهم وأسلافهم. رأينا الفتية الثّلاثة في أتون النّار في بابل، وشاهدناهم يرتّلون ويتمشّون في وسط اللّهيب. رأينا اجتماع الأجداد والجدّات، واحتفلنا بذكراهم بفرح. لاحظنا البطاركة والأنبياء الّذين أخبرونا عن مجيء المسيح. وعندما ظهر، رأينا الّذين التقوه والّذين استقبلوه. تبعنا الرّسل، شاهدنا المعترفين والشّهداء، ورتّلنا مدائح لدمهم المهراق الّذي صار بذار الكنيسة. ومجّدنا قدّيسي العهد الجديد، الآباء والأمّهات: باسيليوس، غريغوريوس، يوحنّا، مكرينا، نونا، أنثوسا... والقدّيسين الّذين لا يحصى عددهم الّذين رأوا الرّبّ، وأحبّوه خلال العصور السّابقة، وحتّى أيّامنا، وصولا إلى قدّيسنا هرمان، وأبينا ألكسندر المحبوب.

وإذا أردنا أن نتكلّم بشريّا نقول: إنّنا رأينا اكثر بكثير ممّا رىه سمعان الشّيخ، في ذلك اليوم في الهيكل. أكثر بما لا يقارن! وبعد، وبحزن، يجب أن نقول إنّنا قد رأينا بعيني روحنا أقلّ بما لا يقارن. إذا كان الأمر هكذا، فإنّه ليس خطأ الرّبّ. لأنّه عمل كلّ شيء حتّى نراه بالرّوح القدس في وسط كنيسته. عمل كلّ شيء حتّى تتحقّق كلمات رسالة بطرس الرّسول فينا مباشرة:

"مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ.الَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ الآنَ ­ إِنْ كَانَ يَجِبُ ­ تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ النُّفُوسِ" (1بط 1: 3-9).

لم نر المسيح بعيوننا البشريّة، ولا نراه بها الآن. لكنّنا نؤمن به ونحبّه ونفرح به فرحا جزيلا لا يوصف. رأيناه، بعيون روحنا، عندما ألهمنا الرّوح القدس. ونحتفل في الكنيسة كلّ عام بمجيئه في فصل الشّتاء.

"إنّ المستوي على الشّيروبيم

المسبّح بتسابيح السّيرافيم

قد حملته والدة الإله مريم على ذراعيها

متجسّدا منها بدون ان تعرف زواجا

ودفعت المعطي الشّريعة متمّما نظام الشّريعة إلى يدي الكاهن الشّيخ

فلمّا حمل الحياة استمدّ عتقا من الحياة قائلا

الآن أطلقني أيّها السّيّد

لكي أخبر آدم أنّني أبصرت طفلا

الإله غير المستحيل

الّذي قبل الأزل والمخلّص العالم"

"لقد هتف سمعان قائلا

تقبّل أيّها الشّيخ على يديك الخالق الكلّ

واحتضن المسيح الّذي ولدته الفتاة البتول بغير زرع

لابتهاج جنسنا"

"أيّتها البتول إنّ الّذين استأهلوا بالجسد

أن يعاينوا الله قد كرزوا بك عروسا لمجد الآب ولاهوته

وفتاة والدة الإله الكلمة ومسكنا للروح القدس. لأنّه قد حلّ فيك بالجسد كلّ كمال اللاهوت إذ قد تكاملت فيك النّعمة"

(خدمة غروب اليوم الأخير قبل وداع عيد الدّخول)