الظّهور الإلهيّ


  نزول يسوع إلى المياه وصعوده منها على الفور، يعني النزول إلى الجحيم والصعود منها على الفور بعد تفجيرها بنوره البهيّ وحضوره الإلهيّ.




شرح أيقونة الظهور الإلهيّ - دير السيّدة - كفتون

تعريف: هي أيقونة تعود إلى القرن الثالث عشر محفوظة في دير سيّدة كفتون - لبنان.

لهذه الأيقونة مميّزات عديدة ومختلفة عن باقي الأيقونات التي تعبّر عن الظهور الإلهيّ، وسنأتي

على شرحها تباعًا.

theophanie-kaftoun-s

- الأيقونة بطول 104سم * 76سم، ذات وجهين: وجه عليه أيقونة لوالدة الإله ووجه عليه أيقونة الظهور الإلهيّ.

- هي مصنوعة من خشب، ومكتوبة (نقول الأيقونة تُكتب ولا تُرسم لأنها صفحة إنجيليّة) بطريقة ال
Tempera حيث يُستعمل صفار البيض مع ألوان نباتيّة طبيعيّة والصمغ العربيّ أو الغراء الحيوانيّ.


أقسام الأيقونة الرئيسيّة:

تتألّف الأيقونة من سبعة أقسامٍ تتوالى بحسب الأشخاص والمشاهد فيها، وسنقوم بِشَرحِها قسمًا قسمًا، على التّوالي، لا على حسب الأولويّة أو الأهمّيّة.


1- الحمامة:

- هي تمثّل الروح القدس تماشيًا مع ما قاله الإنجيل: "وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا
مثل حمامة وآتيًا عليه" (مت 16:3).

- تشير الحمامة أيضًا إلى عهد السلام الآتي في العهد الجديد، وهذا يذكّرنا بالحمامة التي أرسلها نوح من السفينة وبشّرته بنهاية الطوفان، وهنا أيضًا نبشَّر بنهاية الموت وتحرُّرِنا من الخطيئة إذا جعلنا المسيح سيّدًا على حياتنا حقًّا.

- شكل الحمامة في هذه الأيقونة معروفٌ في بلادنا الأنطاكيّة، وهي تتميز بالشكل واللون، فلا هالةَ حولها، بل تتوجّه مباشرة إلى المسيح، ولونها أصفر أي ذهبيّ، وهو لون الملكوت الصافي.

- نصف الدائرة فوق يشير إلى كمال الله، وإلى قبّة السماء التي انفتحت في هذا الحدث العظيم.

- الشعاع ثلاثيّ الأبعاد يدلّ على طبيعة الله الثالوثيّة ويسير في ثلاث خطوط متوازية، دلالةً على الأقانيم الثلاثة المتساوية في الجوهر: آب وابن وروح قدس إله واحد»

dove-

-دلالتها على السيّد تذكّرنا بنجم أيقونة الميلاد الذي قاد المجوس إلى المخلّص، فأتوا وآمنوا به وسجدوا له، ودعوتنا أن نتمثّل بهم.

- أمّا وضعيّتها فتشير إلى الصفحة الأولى من سفر التكوين: « في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة خالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه»، وقال الله ليكن نور فكان نور. 

- من هنا يدعى أيضًا هذا العيد عيد الأنوار إلى جانب تسميته بالظهور الإلهيّ، إذ تمّ فيه تمّ أوّلُ ظهور وكشف إلهيّ ثالوثي في العهد الجديد بشكل علنيّ.


2- القدّيس يوحنّا المعمدان:

- لباس القدّيس يوحنا المعمدان بسيط جداً وأقرب من أيقونات أخرى لما جاء في الإنجيل « ويوحنا هذا كان لباسه من وبر الإبل، وعلى حقويه منطقة من جلد. (مت4:3).

John

- ملامح وجهه نسكيّة بالكامل، ألم يقل الإنجيل إنّ طعامه كان جرادًا وعسلًا برّيًا (مت4:3)،

- إنحناؤه يُشير إلى التواضع والإنسحاق. ليس هو النور بل جاء ليشهد للنور.

ولنلاحظ جيّدًا، لا أحد مستقيم في وقفته إلاّ الرّب يسوع.

- بيده اليمنى يعمّد السيّد وباليد الاخرى يّشير إلى الحمامة وينظر إلى فوق، فهو ليس فقط يعمّد بل يشهد لمجيء النور.

- على خلاف الأيقونات الروسيّة حيث نرى الأجسام ممشوقة جداً، نرى هنا الأجسام معتدلة الطول، الأمر الّذي يشير إلى الطابع المحلّيّ للأيقونة.

- الهالة خلف رأسه تشير إلى قداسته كسائر القدّيسين في الأيقونات،


3- الملائكة:

- عدد الملائكة في هذه الأيقونة ستة. وهذا مرتبط بالتالي:

- يوجد عند بعض الأباء في الكنيسة أمثال القدّيس كليمنضس الإسكندري(القرن الثالث) كلامٌ عن دور كبير لملائكة أوّلين يساعدون الله في عمله الله التدبيريّ. وقد تكلّموا عن دور لهم في الخلق، أيّ عن خروج ملاك من يد الله كلّ يوم من أيّام الخلق الستّة ليكون حاضرًا ومشرفًا على هذا العمل التدبيريّ والخلاصيّ.

angels

- كذلك تكلّم كتاب هرماس الراعي (القرن الثاني) عن ستة ملائكة وعذارى يحيطون بالصخرة التي هي المسيح وبالبرج الذي هو الكنيسة.

- فوجود الملائكة في هذه الأيقونة الجميلة هو من هذا المنطلق. من هنا نشاهد على يسار السيّد الملائكة الستّة على الشكل التالي: " ميخائيل- جبرائيل- أوريل - أبساساكس - روفائيل - عزرائيل "

- كلّ هذا ليشير إلى أهمية هذه الأيقونة شعبيًّا وقربها من المؤمنين وإيمانهم وتقاليدهم، بالإضافة إلى عمقِ مدلولها اللاهوتيّ.

فإذا كانت الملائكة حاضرة في أيّام الخلق الأُولى، ألا تكون اليوم حاضرة في الخلق الجديد للمسكونة جمعاء بتجسّد الله وظهور طبيعته الثالوثيّة ؟

- هذا هو اللاهوت الذي انطلق منه كاتب هذه الأيقونة، فهو أراد أن يعبّر عن مجد الحدث وعظمته. فكاتب الأيقونة ليس مجرد رسّام بل هو لاهوتيّ، أو أقلّه يغرف من اللاهوت ليترجمه بيد الله إنجيلًا للعيان ودعوة للصلاة والتسبيح والترنيم.

- فالملائكة الذين أوجدهم الله ليراقبوا عمليّة الخلق في العهد الجديد نراهم اليوم يشهدون أيضًا على الخلق الجديد للإنسان في العهد الجديد.

- ثياب الملائكة تجمع بين الشهادة والحياة الجديدة. فاللون الأحمر في الأيقونات يرمز إلى الإستشهاد من أجل المسيح ، فكيف إذا كان المسيح نفسه هنا، أي الذي يعتمد، هو الذي سيُصلب من أجلنا جميعًا؟!

- كذلك الستر الذي يحمله الملاك الأوّل ليجفّف الجسد الطاهر، يرمز إلى الأقمطة في الميلاد والصلب والقيامة.

- وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الأحداث الخلاصيّة لا ينفصلُ واحدُها عن الآخَر، وهذا ما تبرزه الأيقونات، وكذلك الليتورجيا بقوّة،

فالأقمطة مثلًا في أيقونة الميلاد هي نفسها التي نشاهدها في أيقونة القبر الفارغ حيث تأتي النسوة لِيُطيّبن يسوع.


4- الملك داود:

في أعلى الأيقونة على جهة اليسار ، أيّ فوق القدّيس يوحنا المعمدان، نشاهد الملك داود يحمل رايةً مكتوبًا فيها باللغة العربيّة ما ترتّله الكنيسة الأرثوذكسيّة في هذا العيد، وهي آيات من المزمورين 87 و114:

- البحر رآه فهرب.

David


- الأردن رجع إلى خلف، الجبال قفزت مثل الكباش والآكام مثل حملان الغنم.

- ما لك أيها البحر قد هربت وما لك أيها الأردن قد رجعت إلى خلف.

- وما لكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش وأيتها التلال مثل حملان الغنم؟

- أيتها الأرض تزلزلي من قدّام الرّبّ من قدام إله يعقوب! المحوِّل الصخرة إلى غدران مياه..

- الصوّان إلى ينابيع مياه...


5- أشعياء النبيّ:

في الجهة المقابلة على جهة اليمين، أيّ فوق الملائكة، نشاهد أشعياء النبيّ يحمل رايةً تحوي مقاطع من آياته مكتوبة باللغة السريانيّة تدعو إلى التطهير، وهي أيضًا ترتّل في ليتورجيا العيد.

Isaiaa

اللغة السريانيّة ليست غريبة بتاتًا عن الكنيسة الأرثوذكسيّة، بحيث كانت تستعمل في الصلوات لأنّها بكلّ بساطة كانت لغّة الشعب، وهناك كتب طقسيّة كثيرة تشهد على ذلك، ويعود تاريخها إلى ما بعد الألف الاول بعدّة قرون.

- اغتسلوا. تنقّوا. اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ. كفّوا عن فعل الشرّ. (أش16:1).

- أيها العطاش هلّموا جميعًا إلى المياه...( أش1:55).

- فتستقون مياهًا بفرحٍ من ينابيع الخلاص(أش3:12).


6- الرجل القديم:

في الأسفل ، في عمق المياه وتحت أقدام يسوع رجل شيخ متقوقع مهزوم يتوسّل إلى الرّب كي لا يفنيه، وهو يمثّل الشيطان المنهزم أمام الله المتجسّد, غُلب إله الشرّ ولم تعد المياه


Old-man

مسكنًا له. بالمعموديّة تجدّدت الخليقة وكلّ شيء أصبح نقيًّا وجديداً طاهرًأ. 

والإنسان مدعو إلى أن يحافظ على هذه الحالة، وإن سقط فله التوبة والإغتسال بمياه دموعٍ عن خطاياه وطلب الغفران والمسامحة. «تعبت في تنهدي. أعوّم في كلّ ليلة سريري، بدموعي أُذَوِّبُ فراشي (مز-6:6)»

7- الرّب يسوع المسيح المخلّص: محور الأيقونة والعيد.

- أول ما يلفت نظرنا في هذه الأيقونة، الرّب يسوع المسيح في الوسط عريانًا بالكليّة.

- عري يسوع يُشير إلى حالة آدم الأول في الفردوس قبل السقوط، أيّ الحالة الإلهيّة التي خُلق عليها الإنسان الأوّل، حالة الطهارة والنقاوة، الإنسان مخلوق على صورة الله ومدعوّ أن يحقّق المثال، والخطيئة هي دخيلة عليه وليست من طبيعته بتاتًا، فالله خلق كلّ شيء حسن.

- لنحدّق جيّدًا فيه، إنّه الوحيد الذي يقف مستقيمًا، كما أشرنا سابقًا، لأن الرّب دائمًا قائمٌ ونحن به وفيه قائمون.

- الغلبة والنصر له على الدوام وقد أعطانا هذه الحالة القياميّة إذا نحن فعلًا ثبتنا فبه: « أثبتوا فيّ وأنا فيكم (يوحنا 4:15)»

- رأسه منحنٍ بإرادته، مشيئة الله الثالوثيّة هي خلاص الإنسان. هذا هو العبد المتألّم “ابني الحبيب” (اشعياء 53) لقد ارتضى الله بنفسه أن يأتي إلينا لأنّه أحبّنا أوّلاً.

من هنا كانت شهادة الله الآب على القبول الطوعيّ للإبن بالروح القدس فكان: « صوتٌ من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت مت17:3». 

هذه الوقفة بالذات مع انحناء الرأس صورة مسبقة للصلب، وهذا تمامًا يذكّرنا باللحظات الاخيرة على الصليب.

« فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكّس رأسه وأسلم الروح (يو 30:19 ) ». 

ولا تنتهي وقفة يسوع هنا فقط، بل تمتدّ إلى القيامة، فوقوفه في وسط المياه الداكنة هو في الحقيقة وقفة في وسط الجحيم أيّ في وسط الموت لتكون القيامة. 


Theophany-Cross

فالقدّيس باسيليوس الكبير يدعو المياه هنا « بالقبر الجاري».

وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة عماد أي اصطباغ في اللغة اليونانيّة Baptizo والتي تشير إلى التغطيس الكامل - الموت والحياة.
من هنا يدعى القدّيس يوحنّا المعمدان يوحنّا الصابغ .

وهذا ما تعتمده الكنيسة الأرثوذكسيّة بالتغطيس الثلاثيّ الكامل للمزمع أن يعتمد: « فنحن نموت مع المسيح ونقوم معه ».

- فلنسترجع ما حصل مع يسوع وهو صاعد إلى أورشليم ليسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه وفي اليوم الثالث يقوم:

« حينئذ تقدّمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها ، وسجدت وطلبت منه شيئا. فقال لها: ((ماذا تريدين؟)) قالت له: ((قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك)).
فأجاب يسوع وقال : ((لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا ، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟» (متى20)

- إذًا نزول يسوع إلى المياه وصعوده منها على الفور، يعني النزول إلى الجحيم والصعود منها على الفور بعد تفجيرها بنوره البهيّ وحضوره الإلهيّ.

- فكيف يمكن للجحيم أن يقبض على المخلّص ولو حتى لبرهةٍ؟!!

وهكذا نحن لا يتغلّب علينا الموت إذا كنّا حقًأ متّحدين بالقائم.

- وهذا ما يفسّر وضوح تقاسيم الأحشاء الظاهرة في جسد يسوع، لتعلن أنّ الرّبّ ليس ضعيفًا، بل على العكس تمامًا، هو يتحدّى الشيطان في عمق مملكته ويينتصر عليه. وجميلٌ أن نعرف أن التقاسيم هذه موجودةٌ أيضًا في أيقونة الصلب.

ملاحظة: الأحرف اليونانيّة الأربعة على يمين ويسار هامة الرّب يسوع المسيح هي في الحقيقة الحرفان الأوّلن لكلمَتي يسوع المسيح باللغة اليونانيّة. والهالة التي خلف رأسه يوجد في داخلها دائمًا صليب إشارةً إلى صلبه.

الألوان في الأيقونة:

إعتمد كاتب هذه الأيقونة خلفيّة غامقة تتألف من اللونين الأسود والأزرق الداكن ليعطي قوّةً كبيرة للأشخاص في هذا الحدث الإلهي وبالأخص الرّب يسوع، من هنا نلاحظ ما يلي:

- القسم العلوي في الخلفيّة من الأيقونة أسود اللون لأن يسوع هو النورالآتي ليبدد ظلمة الخطيئة. «الجالسون في الظلمة أشرق عليهم نور».

- المياه خلف الرّب يسوع داكنة لكثرة الخطيئة فيها، وهذا ما يبرر وجود الرجل في الأسفل الذي يرمز إلى الخطيئة منذ القدم.

- ألوان الملائكة، بالإضافة إلى الأحمر الذي يرمز إلى الشهادة والاخضر إلى الحياة الجديدة كما ذكرنا سابقًا، فهي بمجملها تبرز بوضوح فرحة العيد.

- الرّب يسوع يطغى عليه اللّون الذّهبي الذي هو لون الملكوت الصافي النقي، وهذا يذكّرنا بما هو مدعو الإنسان لأن يرتديه: أي أن يلبس الرّب يسوع نفسه، وأيضًا بما نقرأه في سفر الرؤيا:« لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس والفقير والأعمى والعريان. أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفىً بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضاء لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك. وكحّل عينيك بكحل لكي تبصر (18-3:17)»

خلاصة: إذا كان عنوان الأيقونة كما هو مدوّن عليها أعلاه باللغّة اليونانيّة: «التغطيس»، فهو لكي نخلع في هذا العيد المبارك الإنسان العتيق، إنسان الخطيئة، الإنسان الأنانيّ، الإنسان المائت، الإنسان الترابيّ، الإنسان الزائل، وندخل مع الرّب عراةً من كلّ شهوة وخطيئة، لنلبس معه الإنسان الجديد، الإنسان النورانيّ والإنسان القياميّ.