المسؤوليّة الكنسيّة


إحدى التجارب التي يصاب بها الإنسان المسؤول أنه في كثير من الأحيان لا يعي كيف استبدل اهتمامه. مثلاً الكاهن تعطى له الرعية ليهتم بإيمانها وروحانيتها، وفجأة يتقزّم عمله الى فرقة شباب أو سيدات أو اهتمام بالبناء وإنشاء مشاريع يمكن للعلمانيين أن يهتموا بها. بهذه الطريقة يفقد الإتجاه الصحيح، وبدلاً من أن يكون خميرة صالحة يصبح خميرة ضعيفة قد تؤثر على الرعية سلباً. ومن أشر هذه المتاهات في المسؤولية أن يحصر الكاهن أو المطران أو المسؤول الكنسي عمله في الخدمة الإجتماعيّة، ومسايرة المجتمع في تحركاته وتوثباته فيصبح الراعي أو المسؤول مقاد وغير قائد.

 

 



المسؤوليّة الكنسيّة

الإخوة والأبناء الأحباء،

هذا العنوان صعبة معالجته لأنه شديد التعاريج، كثير الطيات والثنايا، ولألوان صفحاته تغيرات بحسب المجتمع المحيط الذي يحيط بكل إنسان.

إن المسؤولية طرح مبدئي كثيراً ما يتعثر الإنسان في تلمس صواعده ونوازله فهو ليس ذاته بالنسبة للجميع، ولا يتطلب في كل وقت ذات الإمكانيات لا بالنسبة للمسؤول، ولا بالنسبة للمسؤولية ذاتها.

ومن الفضائل الإنمائية عند الشخص كيلا يتشتت أن يعيش حاملاً مسؤوليةً واحدة، وليس عدة مسؤوليات، ومرشدنا الى ذلك ما أعلنه الرسول بطرس في حادثة إنتقاء الشمامسة، عندما قال: "ليس حسناً أن نترك كلمة الله ونخدم الموائد، هاتوا لنا سبعة رجال مملوئين من النعمة لنقيمهم على هذا العمل". فقد فصل هو، وجماعة الرسل عملهم البشاري عن عملهم الخيري الاجتماعي، ولكنهم أبقو البشارة مشرفةً على العمل الخيري الاجتماعي. تشكل هذه الحادثة دليلاً في كلِّ عملٍ، ولكلِّ شخصٍ مسؤولٍ عن عمله، كيلا يقع الإنسان تحت العجز إذ يعتبر أنَّه أكبر من عمله، وأنَّه بإمكانه أن يقوم بعدة أعمالٍ في وقت واحد.

وتجربة الكبرياء في العمل وتشتيت الوقت من أخطر الخطايا التي توقع اليأس في نفسية الإنسان الأمين، ولكنه غير مدرك لقواه. أو تُذهب من قوة العمل إذ لا يعطى حقه الواجب للقيام به خير قيام. ومنذ البدء ظهرت الكنيسة مدركة لهذه التجربة ذات اليمين تارة، وتارة ذات الشمال. أما عن التجربة ذات اليمين فقد تحدثنا عنها فيما يصيب العامل بالكبرياء فيتنطح لعدة مشاغل ومهام في وقت واحد.

أما التجربة من ذات الشمال. فهي أن ينسحب الإنسان من أي عمل أو أمام أي توكيل يطلب منه بحجة أنَّه غير قادر على القيام به، أو أنَّه لا يجد في ذاته المقدرة على استلام المهمة، ويكون ذلك بتواضع كاذب، ولهذا وضعت الكنيسة قوانين توقف مثل هذا الرياء، مثلاً إذا طلب من كاهن أن يصبح أسقفاً، ولم يريد فيسقط من رتبته إذا لم يقدم أعذاراً مقنعة.

ولكي لا يقع أحد في الكبرياء، ويظن أنَّه هو هو ولا أحد غيره، يعمل الرسول بولص على تشبيه المؤمنين كمجتمع بالجسم كله بحاجة لبعضه، ولا يستطيع أي عضو أن يفتخر على الأعضاء الأخرى في الجسم. وعدَّد أيضاً المواهب التي يتميَّز بها كل شخص، ومايز بين أفضلها وأدناها، رتّب ذلك ليس حسب فكر الناس بل حسب ترتيب الروح الذي جعل التعليم والبشارة في المقام الأول، وقال في الرسالة الى أهل كورنثوس الأولى: "لقد جعل الله في الكنيسة رسلاً أولاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلمين" ثم بعد ذلك الذي له القيمة العليا بحسب الترتيب البشري مثل النطق بالألسنة، وطرد الشياطين، وصنع العجائب.

إحدى التجارب التي يصاب بها الإنسان المسؤول أنه في كثير من الأحيان لا يعي كيف استبدل اهتمامه. مثلاً الكاهن تعطى له الرعية ليهتم بإيمانها وروحانيتها، وفجأة يتقزّم عمله الى فرقة شباب أو سيدات أو اهتمام بالبناء وإنشاء مشاريع يمكن للعلمانيين أن يهتموا بها. بهذه الطريقة يفقد الإتجاه الصحيح، وبدلاً من أن يكون خميرة صالحة يصبح خميرة ضعيفة قد تؤثر على الرعية سلباً. ومن أشر هذه المتاهات في المسؤولية أن يحصر الكاهن أو المطران أو المسؤول الكنسي عمله في الخدمة الإجتماعيّة، ومسايرة المجتمع في تحركاته وتوثباته فيصبح الراعي أو المسؤول مقاد وغير قائد.

المسؤولية الكنسية تأخذ أبعادها من الكلمة الإلهية، وحملها للناس. ولا يجوز للراعي أن يفقد الفضائل المسيحية ويتوجه بمسارات قياديّة قالتها كتب الفلاسفة أو الخبراء في هذا العالم، مثلاً كأن يتشبث الراعي بنظرية ميكافيلي في القيادة. فهذه الفلسفة ليس لها علاقة بنظرية القيادة المسيحيّة المتمثلة بالتضحية حتى الصليب.

المسؤول في الكنيسة إذا لم يكن قد حاز موهبة التمييز عليه أن يعرض عمله وأفكاره وتصرفاته على من حملوا وحصلوا على هذه الموهبة، وهي من أوجه سرّ الاعتراف، وفي صميم الأبوّة والبنوّة الروحية.

"إذا لم يبن الرب البيت فباطلاً تعب البناؤون، وإذا لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يتعب الحراس"، فإذا أراد المسؤولون في هذا العالم أن يكونوا ناجحين عليهم أن يضعوا في تصوراتهم أنهم في أداء مهامهم يقفون أمام الله، وتحت رقابته لكي تستقيم أعمالهم إذا وجدوا في أنفسهم ميلاً للفساد. وفي أحسن الأحوال إنما يعيشون ما يرضي الله. ولا يمكن أن يسقط مجتمع أو تنكسر مؤسسة تبنى على هذه القواعد. فهي الصخر الذي لا يتزعزع، وليس من ناموس ضدها.

في هذه العجالة لن أتكلم عن المسؤوليات عند أداء هذه المسؤوليات، وكيفية تنمية شعور المسؤولية المستقيمة، وما هو ارتباطها بالقداسة الشخصيّة، ودور النعمة في تبريكها.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهب كلاً منا هذا الإحساس العظيم كيلا نوجد من مسببي العثرات وإفساد الشعوب والمجتمعات، فمسؤول فاسد واحد مقتدر لا يحاسب يفسد بلداً بكامله ويقوده الى الهلاك.

وفقكم الله في كل أعمالكم لما فيه خيركم وخلاصكم وسَداد أموركم ونجاحها.   

                         باسيليوس

                     مطران عكار وتوابعها