كيف نتهيّأ إلى للمناولة المقدّسة


 

"نحن نصوم قبل المناولة لكي نشترك جسديّاً أيضاً في انتظار السّيد" 

القديس يوحنا كرونشتادت



 كيف نتهيّأ للمناولة المقدّسة؟

في الأرثوذكسيّة، تألّه الإنسان الحقيقيّ ليس تمثّلاً بالمسيح في التقوى والفضيلة، إنما هو كيانيّ؛ اشتراكٌ فعليٌّ حيٌّ في الحياة الإلهيّة، يتحقّق بامتزاج جسد المسيح ودمه بجسدنا ودمنا. هكذا نصير، ونحن بشر ، هياكلَ لله. فالمسيح، حين اتحد بطبيعتنا البشرية، اتّحد بكلّ الأقانيم البشريّة،« ممتزجا مع كل المؤمنين بمناولة جسده المقدّس؛ إذ يُصبح معنا جسدًا واحدًا ويجعلنا هياكل للألوهة بكاملها». هذه الشركة هي واقع حقيقي ، لأنه في جسد المسيح، « يحل كل ملء اللاهوت جسديًا » ( كول ۹ : ۲ ) ".انطلاقاً ممّا تقدّم، انّ المناولة المقدسة هي استحقاق بالنسبة الى المؤمن الارثوذكسي. من منّا اذا كان مزمعاً ان  يتقدّم الى امتحانٍ لا يتحضّر له بالدرس؟ او الى زواج دون القيام بكل الترتيبات الضروريّة؟

نعم، ان كل استحقاق يجب ان يتهيأ له الانسان بالمطلوب فيضمن نجاحه.

 المؤمن الارثوذكسي اذا لا بد ان يتهيأ للمناولة المقدسة من خلال: فحص الضمير بدقّة والاعتراف بتوبة، وبتلاوة صلاة ما قبل المناولة ( المعروفة أيضا بصلاة المطالبسي)، وبالتصافي مع الآخرين. أيضاً نتهيّأ للمناولة بالانقطاع عن الطعام والشراب بدءً من منتصف الليل (أو خلال بضع ساعات قبل المناولة إذا وجدت بعد الظهر )، والأهم بحضور القدّاس الإلهي بكامله.

 

التّوبة والاعتراف

إنّ مسيرة التّوبة يسبقها وعي واعتراف بخطايانا، التي هي حافز عظيم لمحو هذه الخطايا. لأنّ النبيّ المرنم يقول الله، « ارحمني، لأني أنا عارف بإثمي» ( مزمور 50 : ۱ - ۲ ) ». يتكلم القديس غريغوريوس بالاماس عن مخلّع كفرناحوم ( مر ۳ : ۲ - 4 )، معطيًا له معنى مجازيًا، يُمثل مراحل مسيرة النفس نحو التّوبة. إنّ الإنسان الّذي يُستعبد للّذة يوجد مخلعاً على سرير الشهوانيّة والراحة، الّتي بحسب الجسد. لكن حين يقتنع بوصايا الإنجيل، فإنه بالاعتراف يغلب خطاياه ووهن النفس، من ثم يأتي إلى المسيح بهذه الاستعدادات الأربعة : أولاً، بوعي حالته الخاطئة.(التوبة ليست إحساساً بخطيئة معيّنة نقترفها إنّما وعيٌ لحالتنا الخاطئة، حالة الأهواء والغربة عن الله، التي تضعنا في حالة مخالفة للطبيعة الّتي خلقنا عليها الله). ثانيا، بالاعتراف وكشف الأفكار لكلّ ما عمله. ثالثا ، بأن يَعِد بالابتعاد فيما بعد عن الخطيئة. رابعا، بالتضرع المتواصل والصلاة.

اذا التوبة الاعتراف، بداية التي من خلالها ينبغي أن تُقطع كلُّ علاقةٍ مع الاهواء وكلُّ ارتباطٍ ارضيّ يقود إلى الخطيئة. هذه الحالات التي تؤهّل النفس بأن تقترب من الله بتواضع وتضرّع، وتكون مستعدة لاستقبال ملك الكلّ، وأن تقبل منه الشفاء.

الصلاة

الصلاة عصارة تفاعل الروح القدس له المجد مع أحبائه الذين عشقوا الله وهاموا به، فسكبوا رحيق تأملاتهم وصلواتهم وهذيذهم في خلاصات قصيرة مبسطة تفيد العلماني والإكليركي، مَن في العالم ومَن في الأديار، لتقود كل عاشق ليسوع المسيح، الكلمة المتجسد، إلى رحاب الملكوت السماوي. إن كنّا أمّيين أم متعلمين، عاطلين أم عاملين، علمانيين أم إكليريكيين، في البيوت أو في الكنائس، تكون الصّلاة شركتنا المباشرة مع الخالق، وعلاقتنا الشخصية بيننا وبينه. فهي الميناء الأمين، والسّلاح القويّ، والدرع الحصين. إنها خلاصٌ لنا و هلاك لأعدائنا. دواء لآلامنا، وترياق لأهوائنا. وكنيستنا المقدسة اذ علمت اهمية الصلاة في حياتنا مع الله. انسكب الاباء بكتابة الصلوات والافاشين والتضرعات والقوانين، ومن بينها صلاة المطالبسي التي تفتح بصيرتنا وبصرنا على اهمية سر الافخارستية كضرورة ودينونة في آن، كحياة وهلاك في الوقت ذاته امام من يستحق والغير مستحق لعظمة سكنى الرب في اجسادنا. فلا يدنو من الكأس القدسة من لا يتلو هذه الصلاة الغاية في الاهمية ايضاحاً وتعليماً، يقظةً وترتيباً.

الصوم

منذ القديم دخلت ممارسة الصيام قبل المناولة وكان المؤمنون ينقطعون انقطاعاً كامل من منتصف الليل. كذلك في قداس البروجيازميني  (السابق تقديسه) كانت العادة أن يصوم المؤمنون منذ منتصف الليل أيضاً.  إن القديس يوحنا الذهبي الفم يقول في هذا الصدد بأن المتقدّم من جسد الرب ينبغي أن يكون مستعداً بالصلاة ومخافة الله والصيام. أما الصّوم الطويل فلم تكن عليه أيّة شواهد في الكنيسة الأولى.

 الكنيسة الأرثوذكسية ترى في الصيام  وسيلة عظيمة تسبق التّنقية والمناولة. فالكتاب المقدّس يقول بأن الشياطين لا تخرج إلا بالصّلاة والصّوم. بالطبع فان المرضى يعفون من الصيام لا سيما اذا كانت حالتهم الصحية لا تسمح به. أمّا القول بالصيام ساعتين أو ساعة أو أكثر قبل المناولة فهذا أمر ترفضه الكنيسة الأرثوذكسية. فالمسألة ليست مجرد قوانين وتحديدات، بل هي سعي الى طريقة فضلى من أجل نمو الاتحاد بالرب. الاعفاء من الصيام يبتّ فيه الأب الروحي. الصيام قبل المناولة يؤجج روح الانتظار، انتظار السيد من أجل الاتحاد به (كعاشق يواعد معشوقه). لكن الصيام في ذاته مبتور بدون الصلاة و التوبة الحارة والاستعداد بالقراءات الروحية وفي الصيام .

 ويبقى السؤال: لماذا نصوم قبل المناولة؟

 نحن نصوم قبل المناولة لكي نشترك جسدياً أيضاً في انتظار السيد هذا ما يقوله القديس يوحنا كرونشتادت. نصوم لكي يصغر الانسان البيولوجي أمام عظمة وصلابة الانسان الروحي ( الأب ليف جيله ) إن صوم المؤمن قبل المناولة هو للتشبّه بما قاله القديس يوحنا المعمدان (ينبغي أن أنقص أنا ويكبر هو).

حضور القداس بكامله

يسوع المسيح هو حقيقة، حقيقة كاملة. والحقيقة لا تكون اجزاء بل هي هي لأن المسيح هو هو علينا أن نقبلها كلها او أن لا نقبلها. الله قد سبق الانبياء وبشروا عنه ورتبوا لمجيئه، وهكذا خَلَقَ، في الذين عاشوا طيلة حياتهم شوقاً اليه، حباً وكرامة اكثر، لم يسبق أن كانت من قبل. لهذا كان لا بد من اعمال تقدر على تحريك حواسنا وايقاظها. كان لا بد أن نعاين فقر من أغنى الكل. كان لا بد أن نرقب مجيء الحاضر في كل مكان الينا . كان لا بد أن نتأمل في آلام من هو غير متألم.  كان لا بد أن نعاين مقت الناس له وحبه لهم. كان لا بد أن نتأمل في كل ما صنع حتى يُعد لها المائدة المقدسة لنشترك في حياته. وهكذا فإنا بعد تأمّل، سنذهل أمام مراحم الله واحساناته فنندفع إليه جاعلين حياتنا بين يديه. ولكي نبلغ إلى أعماق هذه الأمور ، لا بد ان نرغب بلقاء الرب. لا بد أن نطرد عنا كل الأفكار الغريبة، لأن المرء ان لم يكن مستعداً ان يعطي قلبه كله لله، يستحيل ان ينال أية بركة او تقديس مهما كانت أعماله ومظاهره وحركاته . لهذا فإن الاطار الكامل للخدم الإلهية بكل رمزيته و مدلولاته يرتسم أمامنا جسراً رائعاً عليه نعبر إلى المشوق اليه يسوع المسيح. وعندما نمتلىء من كل هذه الأفكار وتلطِّف ذكراها ومعانيها جفاف قلوبنا، نسرع الى المناولة لنضيف على نقاء النية، قداسة الكيان باتحادنا بربنا يسوع المسيح، وهكذا ننتقل من مجد إلى مجد (۲ كشور ۱۸ : ۳ ). هذه هي أهمية المسرحية الإلهية (القداس الإلهي )، لفهمها وفهم تفاصيلها علينا ان لا نقطع منها شيءً، هي احداث مترابطة ومتواصلة.

 

 

فادي سليمان

 

 

المراجع:

*كتاب اعمدة الايمان الارثوذكسي

*كتاب شرح القدّاس الالهي

*كتاب وستعرفون الحقّ والحقّ يحرركم

*كتاب فنّ الصّلاة

15-Feb-2020