كلمة الراعي ١٦ شباط ٢٠٢٠


على الناس أن يحرصوا ألا يتكلموا أو يمدحوا بنجاحات حياة الناس الفاسدين، ولا أن يغبطوهم على أعمالهم التي تدر عليهم أرباحاً أو نجاحات. وإلا فإننا ندخلهم في تجارب متنوعة ليس لهم المقدرة الروحية على مواجهتها. فالفساد ينتقل من إنسان الى إنسان كما تنتقل الأمراض المعدية لا بل وبشكل أسرع



كلمة الراعي

الفساد

الإخوة والأبناء الأحباء، تكثر في هذه الأيام، وكثر فيما قبلها الكلام عن الفساد والمفسدين والفاسدين، وكل واحد يستخدم في مجالات معيّنة أو في جميعها. ولكن القليلون هم الذين يفكرون في الفساد كحالة روحية تصيب الفرد، وتصيب المجتمع. وكما أن الخير أو الفضيلة هو حالة روحية تصيب الأفراد، وقليلاً ما تصيب المجتمعات، ولكن مجموع الأفراد الخيرين يشكلون المجتمع الخيّر. وإذا كانت الفضيلة أو القداسة هي الإمتلاء من الروح القدس، أو كما يعبّر القديس سيرافيم ساروفسكي: "إمتلاك الروح القدس". فالفساد حالة غياب الروح القدس عن الأشخاص، أو عدم تفعيل نعمه في حياتهم. فالمقصود روحياً بالفساد هي الإمكانيات أو المنطلقات التي ينطلق منها اعتماداً على تبريراتها، الإنسان المدعو فاسداً، أو بالفعل يكون فاسداً. ولكي نسمي الأشياء بأسمائها علينا التركيز على الطريقة التي يفكِّر بها الشخص. ولكي يعرف الشخص في أية حالة هو عليه أن يراقب توثباته عند الإنفعال الأولي هل ينجرُّ في طرق الناس وأهوائهم، أم يجد في نفسه ضبطَ الإنفعال الأول تجاه قضية معينة وتوجيهه بالإتجاه الصحيح، فيعرف أنَّه قد بلغ في هذا الهوى مرحلة اللافساد. وإذا وجد أنَّه مازال يحاور ذاته ليتخذ قراره فهو مجاهد لم يبلغ بعد ضبط أهويته، ومازال يتأرجح في طريقه نحو الخير. في كثير من الأحيان لا يحتاج الإنسان لتفكير ليأتي عملاً معيناً هذا إذا كان حافظاً للكلمة الإلهية ووصاياه جلَّ جلاله، وعاملاً بها، وامتلأ قلبه منها. "الإنسان الشرير من القلب الشرير يتكلم"، "من فضلة القلب يتكلّم اللسان". إن الامتلاء من الروح القدس يثمر في الإنسان كل أنواع الفضيلة: العفاف، التواضع، اللين، المحبة، الإيمان، الصبر، الوداعة، الجهاد الروحي، أي كل الثمار التي ذكر بعضها الرسول بولص في رسائله. هكذا الابتعاد الكلي أو بعضه عن الروح القدس، وعيش الإنسان حياة روحية فارغة، وخضوعه لأهوائه يجعله مثمراً ثمر الشر بكليته أو ببعضه. السرقة، الغش، التهاون، الإلحاد، الغدر، استغلال الناس، عدم تمييز الإنسان لحقوقه من واجباته، وصول الإنسان لمرحلة يعتبر فيها كلَّ شيءٍ يحق له ولخدمته. إذاً ثمار الروح القدس في حياة الإنسان الفاضل تختلف عن ثمار عدم وجود الروح القدس في حياة الإنسان الفاسد. يشارك في بناء الإنسان الفاسد مجتمعه أو صحبته. ولهذا في صلاة "أبانا الذي ..." نركّز في الجملة الأخيرة "...لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير". نركز على عدم التفكير بالفساد، وعدم السماح للأفكار الشريرة بالدنو من الذهن. إن طلبتنا الى الله أن يمنع عنا التجارب لا يعني منع التفكير فكراً سيئاً فقط بل يتعدى ذلك الى حالة النقاوة الكلية. وعندما قال الله للإنسان أنَّه مسموح له بأن يأكل من جميع شجر الجنّة، أما من شجرة الحياة، شجرة معرفة الخير من الشر فلا يقترب منها "لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت"، فالشرُّ مغرٍ وطريقه واسعة وسبله وافرة وطعمه هي الأول لذيذ، وفي النهاية مرٌّ ومكروه. ولكن كيف يدخل المجتمع الإنسان في التجارب. الحال كما هو صار في هذه الأيام. الإنسان الفاضل في العمل ممدوح من صاحب العمل مستهزأ به من قبل الناس، فالناس تقول عنه تعابير لا تمس الفضيلة في أي باب من أبوابها ولا تقرعه، يقول الناس عنه أنه غير مدرك، بهلول، فيوقظون تفكيره، وبالتالي توجهاته الى المشاركة في العمل الخاطئ. من ناحية ثانية: على الناس أن يحرصوا ألا يتكلموا أو يمدحوا بنجاحات حياة الناس الفاسدين، ولا أن يغبطوهم على أعمالهم التي تدر عليهم أرباحاً أو نجاحات. وإلا فإننا ندخلهم في تجارب متنوعة ليس لهم المقدرة الروحية على مواجهتها. فالفساد ينتقل من إنسان الى إنسان كما تنتقل الأمراض المعدية لا بل وبشكل أسرع. إن ما نعانيه في هذا البلد، وفي بلدان العالم كافة، من الفساد ونتائجه صار بسبب أفراد استكانوا لأفكار فاسدة وشريرة، وتسابقوا في حيازة هذه الدنيا وبهارجها معللين ذلك بعلل الخطايا. وكلما غاص الإنسان في الفساد طالبه الفساد بالأكثر، وعلى الأغلب يقود الى الفساد أيضاً انعدام الحريّة الشخصيّة والفكريّة، كأن يفرض الإنسان القوي على أتباعه فكراً معيناً لصالحه، وليس للصالح العام. أو يفرض على الناس أن يقولوا قوله، ويقلدوا فعله، وألا ينتقدوا ما يصدر عنه، ويتصرف به. أو يحمي جماعة، ويطالب الآخرين بأمور أخرى، فيغض النظر عن فساد أتباعه، ويحاسب بشدة الآخرين على أقل هفوة من هفواتهم، وهذه الأحوال للأسف أدت بالبلد الى السقوط، أو ما قاربه في نواحي عديدة. المالية، الإقتصادية، الإجتماعية، الروحية، وما جرَّه هذا الوضع حتى الآن. رجائي وصلاتي الى الله أن لا يسمح لكلمة بطالة أن تخرج من أفواهنا، وألا يسيطر علينا روح الكبرياء والمصالح الأنانية، لكي يتمجد بنا اسمه القدوس.

المتروبوليت باسيليوس منصور مطران عكار وتوابعها

17-Feb-2020